لا يمر يوم دون أن تعلن هيأة النزاهة، الكشف عن حالة فساد في هذه الدائرة أو تلك، حتى أصبح الحديث عن الفساد وملفاته أمرا طبيعيا، فلا يكاد مشروع خدمي أو استثماري، إلا ويعلن عن مخالفات مالية أو فنية فيه. لذلك لا نستغرب أن يتم الحديث عن الفساد الاداري والمالي المستشري في مفاصل الدولة وهيكلها الاداري ككل، لكن المستغرب له والمثير للحيرة والقلق، أن يتم اتهام رئيس الهيأة نفسها بالفساد، ويتم بث مقاطع صوتية منسوبة له، يتحدث فيها عن علاقاته مع بعض القضاة، وشكواه من شخص معين، قام سائقه بالاعتراف أمام المحكمة المختصة بأنه قام بتسليمه مبالغ مالية… وغيرها من الأمور التي اطلع عليها العراقيون. وبعد انتشار ذلك المقطع عمد مجلس القضاء الأعلى الى فتح قضية تحقيقية بحق حنون للتحقيق في صحة تلك التسجيلات ومدى نسبتها له، ولكون أن التحقيق القضائي لازال في بدايتهن والقانون يقول أن الموظف الذي يحال للقضاء، بتهمة تتعلق بالوظيفة، يفترض بمرجعه الاداري سحب يده، لكون أن بقاءه في منصبه يمكن أن يؤثر على سير التحقيق، لكن في قضية السيد حنون، الأمر مختلف، حيث لازال في منصبه، ويمارس صلاحيته بشكل طبيعي.
وإن قضية كهذه، يفترض أن يكون التحقيق فيها بأتم السرية، كون أن المتهم لازال بريئا، كون لم تتم محاكمته لحد الآن، وفي نفس الوقت، فإن منصبه الحساس، بصفته رئيس أعلى جهاز رقابي يتولى وفق الدستور والقانون وقرارات المحكمة الاتحادية مكافحة الفساد الاداري والمالي عبر التحقيق في دعاوى النزاهة، فإن مسألة جعله في دائرة الشبهة، أمر يكاد يكون محرجا للحكومة وللسلطة التنفيذية وحتى القضائية، لذلك يفترض أن تعامل تلك القضية وفق معايير خاصة، منها أن تكون بعيدة عن الاعلام، وأن يتم السير بإجراءات التحقيق بشكل سري، بعيد عن أعين الاعلام، وقانون أصول محاكمات الجزائية، قد اجاز للقاض المختص، أن يقرر جعل التحقيق سريا، إذا اقتضت الضرورة، فأي ضرورة بعد هذه الضرورة؟
فبالأمس، شاهدنا على شاشة إحدى الفضائيات، برنامجا يتحدث عن قضية رئيس هيأة النزاهة، فيقول لنا مقدم البرنامج أن البصمات الصوتية التي سمعناها جميعا، تبين للمحكمة أنها مطابقة بنسبة 100% لصوت القاضي حنون! ولا نعلم من أين جاء السيد مقدم البرنامج بهذه المعلومة الخطيرة، التي يفترض أنها محل سرية تامة، إذ أن مثل هكذا قضايا تغلب عليها الطابع الفنين إذ تتولى الادلة الجنائية تبيان مدى مطابقة الصوت محل الشبهة للصوت الحقيقي، ويتم إرسال النتيجة بكتاب سري الى المحكمة المختصة! والقاضي يقوم بإرفاق النتيجة مع الأوراق التحقيقية. فكيف علم هذا المقدم بالنتيجة التي قال عنها فيما بعد أنها كانت السبب في قيام رئيس الهيأة بالسفر خارج العراق، لأنه علم بأن النتيجة جاءت لغير صالحه، مما يعني أنه محكوم لا محالة! وهنا استبق الاعلامي هذا المحكمة بإصدار الحكم على الرجل!! فالقاضي أو هيأة المحكمة لها رأيها الخاص، وقناعتها الخاصة، وهي صاحبة القرار الأول والأخير في مدى صحة الأدلة واعتبارها كافية للإدانة أو التجريم، أما تكهنات الاعلام، أو إطلاقه للأحكام فلا قيمة لها قانونا، إلا أنها تعطي رسائل خاطئة للمجتمع أو المتابع، فصياغة الكلام من قبل الاعلام، غالبا ما تكون بطريقة مؤثرة، يمكنها أن تلقي تعاطفا من قبل المتابع، الذي سيلقي اللوم على القضاء، فيما أصدر أحكاما تختلف عن الأحكام التي أصدرها الاعلام.
ليس هذا وحده ما يدعونا للحيرة، بل إن نفس اليوم الذي بثت فيه الحلقة التلفزيونية، التي قال فيها مقدم البرنامج أن رئيس هيأة النزاهة، سافر الى خارج العراق بحجة الايفاد، نقرأ خبرا في موقع الهيأة وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، أن رئيس الهيأة التقى بالكوادر المتقدمة للهيأة، ويحثهم على ضرورة الاسراع بحسم ملفات الفساد!! فمن نصدق أذا؟؟ الاعلامي الذي قال لنا بأن حنون سافر الى خارج العراق بعد أن سمع بأن التسجيلات الصوتية التي انتشرت مؤخرا تعود له بنسبة 100%؟ أم موقع هيأة النزاهة الذي أخبرنا بأن حنون الذي يفترض أنه مسافر للخارج بإيفاد التقى بكوادر دائرته؟