صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

إعادة بناء الدولة في العراق.. من الرماد؟

في آخر المطاف، حين يسكُت دوي المدافع المروعة، ويتوقف القصف الجوي الجائر، والقتال الوحشي الذي خلف وراءه دماراً شاملاً، سيضطر المتحاربون الكبار الى الجلوس حول طاولة المفاوضات التي كانت مهملة لسنوات طويلة للاجتماع وللادعاء بخلق عالم سلمي مختلف من خلال تأسيس نظام مستقبلي جديد وخرائط جديدة ومناطق تقسيم جديدة وعقد صفقات يجبرون بعضهم البعض من خلالها بالقبول بالاحتكارات المستقبلية، ولكن السؤال الجوهري والحيوي الذي نردده نحن باستمرار والذي طالما بقي دون جواب، تخميناً أم تنبوءاً، لماذا نحن نبدأ من الصفر دائماً؟ لماذا ندور في فلك مغلق ومنعزل؟ هل هي اللعنة التي تصاحبنا كي يكون الحرب العنوان الصارخ لأزماتنا؟ هل الوضع اللادولة واللاقانون واللاسيادة بكافة أشكالها وبسياقاتها المختلفة هي سمة ابدية يجب ان نستسلم لها؟

من البديهي القول، ان عملية تأسيس نظام جديد ودولة جديدة من الرماد مغايرٌ تماماً من تطوير نظام مُؤسس سَلفاً ومُستمر لعقود عديدة. تحتاج العملية الأولى لبناء هياكل وأعمدة جديدة تبدأ من كيفية ولادة صورة ذهنية واضحة المعالم لتحديد أطر البناء ومن ثم ترجمتها الى دساتير وقوانين وأنظمة وإجراءات ولوائح وخطط تنموية متجسدة، ولكن الا يأتي هذا بعدما يتم تجاوز مراحل التأهيل والصدمة والصمت الكارثي التي تلازم العملية في بدايات نشأتها؟ أما فيما يتعلق بالعملية الثانية، فالأمر اكثر وضوحاً، فكل ما تحتاجه هو تنمية النظام الموجود او السائد حيث في اغلب الأحيان تقتصرعلى الترميم والإصلاح فقط والتأكد من تطبيق الاجراءات بشكل صحيح.

هل يوجد من لا يعرف من اين يجب أن نبدأ؟ من بناء المستشفيات أم المدارس أم من الجسور والأسواق والملاهي؟ إن من السذاجة أن لا نبدأ من بناء البنى التحتية، ولكن لماذا دائما لا نتجاوز البناء الأساسي الى البناء التنموي والاستراتيجي؟ لماذا لا يحدث هذا؟ لماذا أغلبية المشاريع اما معطلة او مؤجلة او وهمية أو مُلغاة او مُختطفة أو مَنهوبة؟ أين تقع المشكلة؟ لماذا الغلط في الحسابات وارتكاب حماقات لا تحصى؟ ألا نعرف تحديد التحديات والحلول؟ كيف لا واهل مكة ادرى بشعابها، فعلى سبيل المثال لماذا يتعين على برنامج معين والذي صُمم لتقوية هيكلية معينة ان يستمر الى اكثر من خمسة عِشرة سنة من اجل تعريفه فقط؟ ولكن عملية انصهاره في البنى المجتمعية التقليدية والدولة تأخذ وتحتاج أزمنة وأجيال؟ هل السبب يعود الى انه لا يوجد هناك علاقة حميمة بيننا وبين الأرض التي نعيش عليها؟ ام انها حالة ثقافية وتأريخية مزمنة تلازم الجميع دون استثناء.

عملية بناء العراق هذه المرة تعتمد اعتماداً كلياً على تحديد المسؤولية القانونية والالتزام الوطني والاخلاقي وبشكل صريح هل يجب على المجتمع الدولي تحمل هذا العبء كما كان الأمر في السابق، حيث لم يكن هناك حتى أطر عامة لمؤسسات الدولة. العراق لا يزال يتصور انه على المجتمع الدولي الاستمرار في مساعدته، لأن العراق حارب الإرهاب وداعش، نيابة عن المجتمع الدولي، ولكن ماذا عن دور العراق كبلد ودولة ومكونات شعب ومؤسسات وكتل عشائرية وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني؟

يفترض من الآن فصاعداً أن يقوم العراق بواجباته الاساسية تجاه مواطنيه؟ ولا يمكن ان تطالب بسيادة الوطن وخروج القوات الأجنبية ما لم تكن أصلاً قادراً على طيّ صفحة الماضي، والتصالح مع الذات، وان تبرهن عن طريق تدشين إجراءات حكومية عادلة ونزيهة بأن الأموال لن تُنهب هذه المرة، وأنه فعلاً هناك قدرة عملية على حماية الأزقة والدرابين من لصوص الليل ومرتزقة التأريخ والمستقبل في نفس الوقت.

التحدي الكبير الذي كان ولا يزال منذ 2003، هو لماذا لم نستطع تحويل المساعدات الأنسانية والتنموية الى برامج إعمار وطنية شاملة بحيث يتم تأسيس وبناء إستثمارعلى تلك الإستثمارات، بدلاً من هدرها بحجج واهية وخطط رهيبة ومريبة، ألم يحن الوقت الأن للخروج من حالات الصدمة وكذلك تجاوز التأهيل السياسي والحكومي وحتى الشخصي والنفسي على مستوى الساسة؟ فأصبح من المعلوم بأنه لا يمكن إقامة شراكة متساوية وعادلة وكفوءة مع الجهات والمنظمات الدولية ما لم يكن هناك فهم عميق وسلوك وإرادة سياسية صادقة لا تخضع لواقع الحال، وإنما تعمل على توظيف وإنتاج رؤى سياسية واقتصادية جديدة تُكافح الفساد ليس على منابر الإعلام فحسب، وانما في الواقع اليومي وفي تطبيق الإجراءات القانونية والتي ستستعيد بالتالي ثقة المواطن بالدولة ووجوب احترامها في حالة تنفيذ الشفافية واعتبارها النزاهة شعاراً ملموساً يشعر بها المواطن في حياته اليومية.

الشراكة الفعلية تأتي من طريق تأسيس الأركان الأساسية للدولة، ولا يُشترط في ذلك ان تكون العملية كاملة وناضجة في هذه المرحلة، ولكن من أجل العبور الى مرحلة متقدمة على اقل تقدير، ما يستوجب وجود خطة استراتيجية واضحة وامينة تُقنع وتُشجع الجميع على التعاون من أجل تحقيقها ودعمها حتى اذا ما اخطأت أو حدث عجز معين في مجال ما او حتى اذا تغير الحكومة الحالية، فالأطر القانونية والمؤسساتية إذا ما وجدت يجب أن تبقى عاملة ومحمية من اجل القيام بالمسؤولية الاساسية تجاه مواطنيها والمجتمع الدولي في نفس الوقت.

أقرأ أيضا