أشرنا في مقال سابق نُشر في صحيفة “العالم الجديد” حول الفراغ الحاصل في المشهد السياسي السني، والذي قد يتيح فرصة للحزب الإسلامي العراقي أو الإسلاميين من الظهور كلاعب رئيسي مجدداً في الساحة، استنادًا إلى عوامل سياسية واجتماعية حتمية تم تحديدها في المقال، واليوم على ما يبدو بدأت تلك المحاولات لملء هذا الفراغ، حيث تم الإعلان عن ائتلاف جديد باسم ائتلاف القيادة السنية الموحدة بشكل فوتوغرافي دون تفاصيل واضحة حول برنامجه السياسي، ومع الشخصيات التي تضمنها الائتلاف، يصبح من الصعب الجزم بنجاح هذه المحاولة، او كونها المحاولة الوحيدة، اذ من المحتمل أن تكون جزءًا من سلسلة محاولات أوسع في المستقبل لملء هذا الفراغ.
التسمية سابقة تاريخية
تعتبر تسمية ائتلاف القيادة السنية الموحدة سابقة لم تحدث منذ عام 2003، حيث لم يسبق لأي حزب سياسي أو ائتلاف أو كتلة برلمانية أن ضمت كلمة “السنة” أو “السنية” في تسميتها، بل تُعد هذه التسمية سابقة في التاريخ السياسي العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية، اما سبب اختيار هذه التسمية دون تسميات أخرى يعود إلى سببين رئيسين:
الأول هو تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة وتأثيراته الناجمة عن التحولات الكبرى في سوريا ولبنان والا لو استمر التصاعد في النفوذ الإيراني وهيمنة بعض الشخصيات الطائفية في القوى الشيعية، لكانوا قد واجهوا حملات كبيرة تحد من هذا التحول او التسمية.
الثاني هو محاولة استمالة عاطفية لإعادة تصدير أنفسهم عبر استغلال هذا التوجه، حيث تهدف الشخصيات إلى إثارة مشاعر المكون السني من خلال تبني هذا المصطلح في عنوان تشكيلهم الجديد، خاصة في ظل التأثير الاجتماعي للتحولات في سوريا، التي الهبت مشاعر السنة وأثارت فيهم رغبة في التغيير والمطالبة بتقديم حلول للتحديات التي يواجهونها.
إلا أن واقع الحال لهذه التسمية غير موفق، وتكاد لا تخرج عن إطار محاولة إعلامية للتسويق، غير مدركة لآثار انعكاساتها على مستقبل الهوية العراقية، وحتى على خيارات هؤلاء القادة الشبه إسلاميين، أو على الشارع السني، خاصة بعد فشل التجارب السابقة التي استندت في برامجها إلى المظلومية السنية، ومن الملاحظ ايضا ان هؤلاء الشخصيات لم يأخذوا في الاعتبار عند اختيار هذه التسمية، بان هناك تحولات في الوعي السياسي لدى جميع العراقيين، خاصة المكون السني بعد عام 2014، بالتالي لم تعد الشعارات او التسميات تؤثر فيه كثيرا؛ انما المعيار لدى هذه الجماهير هو حقيقة المنجزات الفعلية سواء كانت تحمل التسمية صبغة دينية او علمانية.
الشخصيات تاريخ مثقل بالتناقضات
يتألف الائتلاف من مجموعة من الشخصيات بعضها يمتلك تاريخًا وقدمًا في العملية السياسية منذ الاحتلال، بينما دخل البعض الآخر حديثًا، من الواضح أن هؤلاء الشخصيات رغم تنوع خلفياتهم السياسية، كانوا يتقاسمون نفس المائدة السياسية الاسلامية لفترات طويلة، فمثلاً يُعرف محمود المشهداني بتوجهاته السلفية وتاريخ من الشراكة مع الحزب الإسلامي العراقي الذي اوصله لأول مرة الى رئاسة البرلمان عام 2006 ، في حين خميس الخنجر محسوبًا على الإسلاميين والعقل المدبر الاقتصادي لهم في العراق، أما مثنى السامرائي فقد كان داعمًا اقتصاديًا مهمًا ومستشارًا للرئيس السابق لمجلس النواب سليم الجبوري الذي كان يشغل منصب نائب الأمين العام للحزب الإسلامي العراقي، اما الشخصيات الاخرى ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الاسلاميين مثل زياد الجنابي الذي يروج نفسه باعتباره من قادة السنة في حزام بغداد، في حين أبومازن الجبوري الذي يصف نفسه بـ الزعيم الصعب في صلاح الدين، قد ناصف الإسلاميين المكاسب في محطات سياسية كثيرة.
ومن الواضح أيضًا أن سير هؤلاء الشخصيات الذاتية مليئة بالمفارقات والتناقضات التي تعكس عدم انسجام خلفياتهم الفكرية أو السياسية مع التسمية التي اختارها الائتلاف، أو مع التوقعات المرجوة منه على سبيل المثال محمود المشهداني له تاريخ من التصريحات المثيرة للجدل تجاه المكون السني مثل قوله “السني نايم يم مرته”، أما مثنى السامرائي فقد سبق وأثار استياءً واسعًا عندما وصف الأنبار بأنها “منبع الإرهاب” وبالنسبة لأبومازن الجبوري فقد وُجهت له اتهامات مباشرة من قبل مشعان الجبوري في منشور على فيسبوك عام 2019 بأنه عمل مخبرًا للقوات الأميركية، فضلاً عن قضايا الفساد التي تلاحقه، بينما خميس الخنجر يبدو حتى الآن متذبذبًا في توجهاته، إذ لم يحدد رؤية واضحة لنفسه او للمكون السني ولن يحدد ابداً.
هذه المعطيات تطرح تساؤلات جدية حول جدوى وفعالية هذا الائتلاف الجديد، ومدى قدرته على ملء الفراغ السني بفعالية هل سيتم ذلك وفقًا لنظرية إحنا مقاولين تفليش التي يؤمن بها المشهداني أم من خلال مبدأ الصفقات والملفات التجارية السمة الأبرز لفكر مثنى السامرائي.
أم من خلال المال السياسي والفوضى الفكرية التي يجسدها مشروع الخنجر، أو عبر نظام الولاء المطلق والقسم بالقرآن الذي يعكس فلسفة الجبوري السياسية، أم أن الأمر سيقتصر على تراشقات وتجاذبات كتلك التي وقعت بين زياد الجنابي وأبومازن في إحدى الجلسات البرلمانية السابقة.
وهذا ما يطرح تساؤلًا أكبر هل هذه الشخصيات حقًا لديها نية حقيقية لتقديم شيء جديد، أم أن هذا المشروع لا يتجاوز أن يكون مجرد واجهة إعلامية تعتمد على مظلومية المكون السني، دون وجود رؤية واضحة أو خطوات عملية تسهم في خدمة المكون السني والمشهد السياسي بشكل عام.
المخاوف تاريخية
تتفق التجارب التاريخية والطروحات الإصلاحية على أهمية السعي نحو الإصلاح ضمن الأطر المتاحة، مع مراعاة الواقعية وإدراك أن الحوار يعد الخيار الأمثل لتجاوز الأزمات الا إن هذه الفلسفة الواقعية تتصادم مع مخاوف الشارع السني تجاه الائتلاف الجديد، لعل أبرز هذه المخاوف:
- تاريخ الشخصيات القيادية في هذا الائتلاف يُعتبر مصدرًا للشكوك فضلاً عن أن التسمية الجديدة للائتلاف تحمل طابعًا استقطابيًا، خاصة مع حالة الغموض التي تحيط برؤية هذا الائتلاف او بالمشهد السياسي العراقي.
- القلق من تصعيد خطاب الهوية والمكون دون طرح برامج سياسية واضحة ومقنعة، الأمر الذي قد يزيد من عمق الفجوات والانقسامات سواء مع المكونات العراقية أو داخل المكون السني ذاته، الذي يعاني أصلًا من انقسامات متجذرة تضعف من قدرته على مواجهة التحديات، خاصة مع غياب أطراف سنية مصرة على البقاء مثل الحلبوسي، أو طامحة مثل جمال الضاري، اللذين لن يبقيا صامتين طويلاً، وأخرى لا تظهر إلا في أوقات سياسية تنافسية مثل الكسنزانية، أو أطراف مخضرمة مثل إياد السامرائي، وسليم الجبوري، وحاجم الحسني، وصالح المطلك، وأسامة النجيفي الذين سبق اظهروا رغبتهم بالتواجد السياسي في هذه المرحلة من خلال مشاركتهم في “مؤتمر الرؤساء” في ديسمبر الماضي.
- اللجوء إلى تسويق إنجازات سطحية تعمق من الأزمة السنية، خاصة إذا ما قام الائتلاف الجديد بالترويج لإقصاء الحلبوسي على أنه انتصار للمكون السني، أو تم تمرير قانون العفو العام الذي فُرِغ من مضمونه، مقابل تمرير قوانين ذات انعكاسات خطيرة مثل قانون الأحوال الشخصية أو قانون العقارات، بهدف الظهور بإنجازات تخدم القضية السنية في حين أن الواقع يشير إلى أن التحديات التي يواجهها المكون السني أكثر تعقيدًا وأعمق من هذه المحاولات التي لا تحقق سوى مكاسب مؤقتة على حساب المصالح الجوهرية.
- عدم إدراك الائتلاف للفرصة التاريخية الحالية الناجمة عن التحولات في المنطقة، والتي اثرت على قوى الإطار التنسيقي وعلى القوى الكردية، الامر الذي قد يؤدي إلى ضياع فرصة هامة لاستثمار هذا التوقيت والتحولات بحكمة لرسم مسار جديد بشكل استراتيجي ومدروس يلبي تطلعات المكون السني ويعزز استقراره.
من أجل معالجة هذه المخاوف، يجب على هذه الشخصيات السياسية أن تتحلى بمزيد من المصداقية تجاه نفسها وشعاراتها وجماهيرها، وأن تسعى بجدية إلى تجاوز الانقسامات الداخلية والعمل على لملمة باقي الأطراف الفاعلة ضمن المكون السني، سواء المشاركة أو غير المشاركة في العملية السياسية، بما يضمن تحقيق رؤية موحدة قادرة على مواجهة التحديات المشتركة والتفاعل مع التحولات الإقليمية والمحلية بفاعلية ومسؤولية، ولا بد أن يتم ذلك من خلال جلسات حوارية واجتماعات شاملة تضم جميع الأطراف السياسية والمجتمعية، مع اعتماد مبدأ الحوار كآلية أساسية لتوجيه الجهود نحو تقديم حلول عملية في هذه المرحلة الحرجة التي تتطلب التنسيق والتعاون المشترك بعيدًا عن إقصاء الآخرين أو تهميشهم.
في المقابل، يجب على النخب والشخصيات التي تطالب بالإصلاح والتغيير داخل المكون السني أن تسعى إلى تقديم أوراق عمل شاملة وتنظيم جلسات إحاطة توضح رؤاهم ومقترحاتهم في التغيير المنشود بما يسهم في إيجاد حلول عملية وواقعية للتحديات التي تواجه المكون السني، كما يجب الضغط على هذه الشخصيات في الائتلاف أو الائتلافات القادمة لتنفيذ هذه الرؤى بما يتماشى مع تطلعات الجمهور السني ويعزز استقراره السياسي والاجتماعي.
اما إذا استمر الحال في الاكتفاء بتصدر هؤلاء الشخصيات، بما تحمل من سير ذاتية مثقلة، وتقديم المصالح الشخصية والحزبية على المصلحة العامة، فإن ذلك سوف يؤدي إلى استمرار دائرة الفشل ويزيد من تعميق الأزمة، وعندها ننتقل من سابقة تاريخية في التسمية إلى سابقة مخجلة ومليئة بالإسفاف تهيمن على تصاعد الخلاف السني-السني المرتقب.