مرة أخرى تُزدرى الحقائق على الأرض عندما نجد في آن واحد الواقع ونقيضه في العراق الأمريكي الإيراني، وهذه المرة وعد واهن أمام الكونغرس من مرشحة الرئيس جو بايدن لمنصب سفيرة الولايات المتحدة في بغداد تريسي آن جاكوبسون، بالقضاء على ميليشيات إيران في العراق بمجرد تثبيتها في منصب السفيرة.
التاريخ ليس ميتا عندما يتعلق الأمر بالوعد الأمريكي الزائف، وإن كان يراد له أن ينسى بعد 21 عاما من احتلال العراق، كذلك تبدو جملة السياسي الفرنسي جورج كليمنصو بأن “الحرب هي عبارة عن سلسلة من الكوارث التي تؤدي إلى النصر” فاقدة الصلاحية عندما يتم تطبيقها على “العراق الأمريكي الإيراني” الذي انتهى بسلسلة كوارث سلمت واشنطن البلاد في النهاية إلى طهران.
ازدراء الحقائق والزيف تجسد في بوش الابن عن واحة الديمقراطية في العراق بمجرد احتلاله، إلى الحرب التي تجلب الحرية التي وعد بها رامسفيلد العراقيين، ثم اعتبار إنهاء مفهوم الدولة في العراق عند كونداليزا رايس “فوضى خلاقة”.
وهكذا حصلت الولايات المتحدة على أكثر مما ساومت عليه، وأطلقت سراح غريزة التدمير وتسيد الفساد وقتل مفهوم الوطنية في العراق. لينتهي الأمر اليوم بانتصار مجاني تمنحه واشنطن إلى طهران.
الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من مأزق أخلاقي؛ فهي لم تنجح في بناء عراق ديمقراطي كما تذرعت، ولم تنجح في بناء نظام سياسي سليم، ولم تنجح في بناء عملية سياسية يشترك فيها جميع العراقيين، وانتهى الأمر إلى أن وصلنا إلى العراق الإيراني الذي تتعهد جاكوبسون اليوم بالوقوف بوجهه.
لم يتوقف الأمر على العراق وحده، فاحتلاله وفق كريس باتن آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ ومفوض الاتحاد الأوروبي السابق للشؤون الخارجية، أحد أكثر الصراعات ضررًا في القرن الحادي والعشرين على العالم. عندما تحاول الديمقراطيات الليبرالية مواجهة التحديات الهائلة لهذا القرن، وهو ما يتطلب منها مواجهة إرث حرب العراق المتمثل في انعدام الثقة والانقسام.
فقد أوضحت النزعة العسكرية الكارثية للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بشكل صارخ أهمية المعايير والمؤسسات الدولية، فضلًا عن عواقب تجاهلها.
مع ذلك قائمة ازدراء الحقائق وإرغام الجمهور على رؤية الأسود أبيض، أطول من أسماء بوش ورامسفيلد ورايس ويضاف لها اليوم السفيرة جاكوبسون.
فقد اعترفت مرشحة الرئيس بايدن في كلمتها الافتتاحية أمام لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية على أن إيران لا تزال ممثلاً خبيثًا ولها تأثير مزعزع للاستقرار في المنطقة.
وقالت جاكوبسون “نحن ندرك أن التهديد الرئيس لاستقرار وسيادة العراق هي الميليشيات المتحالفة مع إيران”.
وتعهدت إذا تمت الموافقة على اختيارها بهذا المنصب ستستخدم كل الأدوات السياسية لمواجهة هذه الجماعات الخبيثة ووقف نفوذ إيران في العراق.
هذا التعهد يبعث على الإثارة السياسية وثمة من يترقبه بين العراقيين، لكن مهلا من الذي سيصدقه؟
عندما يتعلق الأمر بتريسي جاكوبسون، فآخر تجاربها كانت فشلا ذريعا في أفغانستان عندما كلفها الرئيس بايدن بإنقاذ عملاء الجيش الأمريكي من الأفغان وإخراجهم بطريقة أو بأخرى بعد انسحاب القوات الأمريكية، بينما مازال هناك إلى اليوم المئات من هؤلاء العملاء تركهم الجيش يعيشون مصيرهم من إحساس الخذلان الأمريكي والعار المجتمعي والمطاردة بين أهلهم الأفغان.
مع ذلك دعونا نترقب، إن كانت السيدة جاكوبسون قادرة أو تريد حقا الإدارة الأمريكية إنقاذ العراق من ميليشيات إيران؟ فهزيمة الولايات المتحدة الأخلاقية والسياسية في العراق يقابلها منح انتصار مجاني لإيران. واحتلال العراق عام 2003 غير بشكل جذري تصور إيران للتهديد. ووجد الإيرانيون دليلا على رغبة واشنطن بالشروع في استراتيجية للتدخلات النشطة. حيث كان التأثير الأكثر إلحاحا بالنسبة لطهران هو دعم الميليشيات المسلحة والإنفاق عليها لتصبح أذرعها الطويلة في المنطقة كسمة مركزية في الاستراتيجية العسكرية لإيران.
ذلك ما دفع صحيفة نيويورك تايمز، التي كانت بين الصحف التي انقادت لغطرسة إدارة بوش في ترويج الأكاذيب، إلى الاعتراف المتأخر بأن العراق بات أشبه بولاية إيرانية.
تقول الصحيفة إن صور قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني المنتشرة في الميادين وعلى البنايات في المدن العراقية، توحي لأي زائر لا يعرف الأوضاع السياسية في البلاد أن سليماني الإيراني الذي قتل بغارة أمريكية قرب مطار بغداد هو “رئيس العراق”.
وعن ذلك يقول إميل حكيم، الزميل البارز لأمن الشرق الأوسط في المعهد البريطاني الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن احتلال العراق كان الخطيئة الأصلية التي ساعدت إيران على تعزيز مكانتها في افتراس العراق.
فالعراق كان البلد المثالي لإيران لتوزيع ميليشياتها وتحقيق أهدافها، الأمر الذي أدى إلى تآكل صورة الولايات المتحدة وتفكك المنطقة.
في النهاية لا يمكن أن نشك بأن مرشحة بايدن لمنصب السفير في بغداد تدرك مثل أي مسؤول أمريكي آخر بأنه لا يمكن لأي رئيس وزراء أن يتولى منصبه في العراق من دون موافقة ضمنية على الأقل من كل من الولايات المتحدة وإيران، وهو ترتيب ينتج عنه في كثير من الأحيان رؤساء وزراء ممزقون بين واشنطن وطهران. وأن غالبية المسؤولين العراقيين يشغلون مناصبهم في الحكومة وفق درجة الولاء لإيران. لذلك كانت تكلفة النفوذ الإيراني على التنمية والاستقرار في العراق باهظة.
فهل بمقدور السيدة تريسي جاكوبسون أن تتحمل تكلفة أكثر من عشرين سنة من الأخطاء والجرائم السياسية الأمريكية والإيرانية في العراق، لمجرد أنها تعهدت بذلك أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ؟