يعد العراق ضمن المنظور الجيوستراتيجي قلب العالم والشرق الاوسط، لما يملكه من موقع جيوبوليتيكي مهم، ومكانه جيواقتصادية مهمه، وإرث حضاري وثقافي متميز، وهذا الوضع جعله مطمعاً لمختلف القوى الخارجية، وهذا يفسر الى حدٍ بعيد طبيعة وحجم وعمق ونوع الصراعات التي تضرب بالبلد، والتي وصلت لحد تمزيق البلد وتهديد وحدته الجغرافيه.
لطالما كان العراق بمثابة بيضة القبان في عملية توازن القوى الاقليمي ضمن المدرك الاستراتيجي للولايات المتحدة الامريكية لاسيما اثناء الحرب الباردة ومابعدها؛ فكان عضواً فعالاً في حلف السينتو عام 1955 لوقف نفوذ الاتحاد السوفيتي في المنطقة، وبعد تغيير النظام السياسي عام 1958، وما تلاه من تغيير في العقيدة السياسية، كان جرس انذار للادارات الامريكية المتعاقبة لمحاولة احتواء وتحييد العراق والسيطرة على منطقة الخليج العربي، بدأً من سياسة العمودين المتساندين (لنيكسون) عام 1969، ومبدأ (كارتر) عام 1979 لانشاء قوة التدخل السريع، ثم استراتيجية الاحتواء المزدوج (لكلينتون) عام 1993، واخيراً سياسة بوش الاب والابن لتفتح نمط استراتيجي جديد تتخلى فيه عن حماية مصالحها بالوكالة، وتنتهج سياسة الجوار الاستراتيجي، عبر التواجد العسكري المباشر بالمنطقة.
على الرغم من تلك المميزات والقيمة التي يتمتع بها العراق، الا ان قدره الجغرافي وضعه في بيئة اقليمية معقدة وملتهبة للغاية وذات مصالح متقاطعة و/او متعارضة على الاغلب، الى ان جاءت احداث 11/9 لتشكل نقطة التحول الرئيسة في الاستراتيجية الامريكية ونظام توازن القوى الاقليمي والتي شرعنت احتلال العراق لتخرجه من معادلة التوازن بعد ان كان قوة اقليمية فاعله ومؤثرة، لتجعله دولة فاشلة بكل المقاييس، وارض خصبه لتصفية حسابات الخصوم على حساب مصالح العراق العليا، وهذا سرع بشكل دراماتيكي من مستوى الصراع الاقليمي والدولي في ارضه، ليصب كل ذلك في مصلحة دول اقليمية كبرى (كتركيا، ايران، اسرائيل)، محاولة منها لسد هذا الفراغ الاستراتيجي واعادة هيكلة نظام توازن القوى الاقليمي وفقاً لقدرات وامكانيات كل قوة.
في ظل هكذا ظروف تميل فيها كفة المحددات والمعرقلات الناجمه عن تأثير القوى الاقليمية والدولية في استقرار وسلامة وأمن العراق، على حساب كفة الفرص والامكانيات المتاحه؛ كيف لنا تحديد ورسم مستقبل العراق وتحقيق مصالحه العليا؟ فصحيح هناك علاقة سببية عكسية مباشرة بين اية دولة ومحيطها الخارجي، إلا ان العامل الداخلي بما يحوي من (قوانين، ومؤسسات، وقيم، وتنظيمات، وقوى مدنية، وموارد) يبقى هو الفيصل الذي يحسم القضية ويحول البلد الى دولة قانونية حديثة وقوية وايجابية، ومن ثم يأتي دور العامل الخارجي الذي اما يعزز الايجابيات، او يزيد السلبيات.
بمعنى آخر؛ ان تحقيق مصلحة البلد العليا يرتبط ارتباطاً مباشراً بنجاح سياسته العامة؛ فان رسم السياسة الخارجية وبناء علاقات رصينه قائمة على المصالح المتبادلة، الى جانب صياغة سياسة داخلية تعتمد على الحوار وحل الخلافات وتحقيق الامن والتعاون الاقليمي مسألة لاتقع فقط على عاتق العراق، فلابد للدول الاقليمية ولاسيما العربية ان تدرك وتعي مسؤوليتها التاريخية والاخلاقية والقانونية في ترسيخ أمن واستقرار العراق، لان عراقاً ضعيفاً وهشاً يشكل تهديداً اقليمياً لدول المنطقة، لذلك يسعى العراق جاهداً الى ارسال رسائل طمئنة لتبديد مخاوف محيطه الاقليمي، ودعوة هذه الدول الى دعم إقامة حكومة عراقية وطنية تنفتح على الجميع وتتفاعل بايجابية مع هذه الدول عبر سياسة عدم الانحياز والتوازن، ليكون العراق نقطة التقاء اقليمية تمتد نحو البيئة الدولية، بدلاً من ان يكون ساحة صراع وتصفية حسابات دولية.
وفقاً لما تقدم يمكننا تلخيص اهداف سياسة العراق الخارجية:-
تقارب العراق مع محيطه العربي وتعميق الاتصالات والتعاون على اساس التكامل في المصالح، وتعزيز مجالات التعاون الامني، عبر عقد اتفاقيات امنية مشتركة تتصدى للارهاب وتحقق الاستقرار الامني.
اعادة بناء الثقة مع المحيط الاقليمي، ومحاولة تصفير المشكلات وحل الخلافات، من خلال قراءة متمعنه للواقع نستطيع منها وضع رؤية جديدة واضحة لاهداف البيئتين الدولية والاقليمية وادراك توجهاتها واهدافها بالعراق، تنضج بواسطة عقد لقاءات مشتركة على كافة المستويات.
اقامة علاقات متوازنة مع الدول الاخرى لاسيما الدول المؤثرة في الشأن العراقي، فالسلوك السياسي المتوازن يضمن الاستقرار السياسي، وعكس ذلك قد يؤدي الى تعقيد المشهد.
منع استغلال دول المنطقة للخلافات الداخلية العراقية، من اجل التأثير على الملف الامني، وساعدها في ذلك طبيعة تكوين المجتمع العراقي التعددي، لحماية استقرار العراق والحفاظ على وحدة أراضيه .
الابتعاد عن سياسة المحاور والاستقطاب وسياسة الانكفاء على الذات والعزلة، والتعامل مع حليف واحد قوي ضمن علاقة تعاقدية واضحة، يساعد في منع القوى الاقليمية الاخرى من بسط نفوذها في العراق.
عقد شراكات متعددة مع القوى الدولية الرئيسة الاخرى في مجالات قد لايستطيع الحليف الواحد تأمينها، كالشراكة مع (الصين، الاتحاد الاوربي، اليابان).
ترسيخ العلاقات الثنائية الدبلوماسية مع دول العالم، وتحسين السمعه الدولية، واشراك المجتمع الدولي في عملية اعادة اعمار العراق وتطويره، واعادة نشاط وفعالية البعثات الدبلوماسية العراقية وتعزيز المصالح العراقية في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
تجديد الدبلوماسية المتعددة الاطراف، والانضمام من جديد للهيئات متعددة الاطراف والمشاركة في نشاطاتها، ومحاولة تحسين الاداء داخل المنظمات الدولية والمنافسة على المواقع المهمة داخل هذه المنظمات.
ان القدرة على توظيف الموارد والموقع وفق مصلحة الدولة والمصالح المشتركة مع البيئتين الاقليمية والدولية، تحقق المبدأ المهم والاساس وهو عنصر التوازن في التعاطي مع مختلف دول العالم، اذ عبرت السياسة الخارجية العراقية عن توجهاتها انطلاقاً من خصوصية الموقع الجيوستراتيجي للدولة، سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والاحترام المتبادل للسيادة، والعمل على منع ان يكون العراق منطلقاً لتهديد دول الجوار، او ميدان لتصفية حسابات الخصوم.
بعد ان حددنا مجمل الاهداف ينبغي علينا معرفة قدرتها في خدمة وحماية المصالح من التهديدات، فتحقيق المصلحة الوطنية يعتمد بشكل جوهري على صياغة استراتيجية مبنية على تقييم البيئة الداخلية والخارجية، ترسم صورة نمطية لواقع مأمول تسعى الى تحقيقه والحفاظ عليه.
وبعيداً عن تعداد انواع او تعريف المصلحة الوطنية الذي يجتهد الكثيرون في تعريفه، احب ان انوه هنا الى موضوعة سوء وتباين ادراك صناع القرار والكثير من السياسيين لمفهوم وطبيعة هذه المصلحة، وبالتالي سيؤدي ذلك الى عدم قدرة الدولة على الحفاظ على وحدتها وسيادتها، وسبب ذلك يعود الى:-
طبيعة النظام السياسي.
غياب الهوية الوطنية الجامعه.
غياب الثقافة الوطنية الجامعه.
غياب الادراك الاستراتيجي لمتغيرات البيئتين الاقليمية والدولية.
غياب الهدف الاستراتيجي للدولة.
الخلل في العلاقة بين المصلحة الوطنية والسيادة.
غياب العمل المؤسسي.
اتساقاً مع ماتم عرضه؛ يقع على عاتق الحكومة العمل على ترسيخ مبدأ التوازن الاستراتيجي وبناء علاقات دولية بعيدة عن سياسة فرض الإملاءات، من خلال تحقيق التكافؤ والتعاون الدولي، وفق المصالح العليا لكل دولة، وبناء قاعدة التفاهم المشترك والاعتماد المتبادل في مختلف المجالات (السياسية والاقتصادية والعسكرية)، فكل دول العالم بحاجة الى بعضها البعض؛ فلايمكن لاي دولة بالعالم مهما بلغت من مكانة وقوة ان تعيش بمعزل عن الاخرين، فالعلاقات الدولية اصبحت تكاملية، مبنية على الاعتمادية المتبادلة والتفاعل الاقليمي والدولي.
فدولة مثل العراق تعيش في بيئة دولية واقليمية مضطربة، وتعددية سياسية واجتماعية، عليها الابتعاد عن سياسة المحاور والتكتلات، لانها ستكون في موقع الضعف والاحتياج لمحور معين، في مقابل العدائية والتقاطع مع محور اخر، ولا بد من الاشارة الى ان القدرة على بناء سياسة خارجية متوازنة وغير متقاطعة في بيئتها الاقليمية والدولية، تحتاج الى وحدة الموقف على مختلف المستويات الرسمية وغير الرسمية، وعدم تشتت الآراء او التوجهات، بين الحكومة بصفتها تمثل الجهاز التنفيذي وبين القوى السياسية والبرلمانية، وان المسألة الاساسية هنا هي تحديد اولويات السياسة الخارجية والاتفاق عليها بين جميع القوى، وتبنيها كمنطلق لستراتيجية ثابتة تؤمن بها كل الاطراف السياسية العراقية، والتي يفترض ان تضع في اولى اولوياتها المصالح العليا للدولة وعلى رأسها السيادة الوطنية، فالانطلاق من مبدأ السيادة وترسيخه وعدم قبول تدخل أي طرف خارجي بالشأن الداخلي هو الاساس في نجاح سياسة الدولة.