كان اكثر المراقبين والمحللين ومراكز القرار في روسيا والولايات المتحدة الامريكية واوربا يتوقعون بشكل موضوعي ومنطقي ان الغزو الروسي سيكون خاطفا وسيحقق اهدافه في غضون اسابيع قليلة، حيث واقع المقارنة بين الجيشين تشير الى تفوق ساحق في كفة الجيش الروسي الذي يعتبر ثاني اكبر واقوى جيش في العالم من حيث عدد الاسلحة والتجهيزات ونوعيتها وعدد الافراد الموجودين بالخدمة. بعض المسؤولين في اوربا اقترح استضافة الرئيس الاوكراني زيلينسكي وافراد عائلته والبعض الاخر اقترح تشكيل حكومة في المنفى تقود المقاومة بعد سقوط كييف وتعيين حكومة موالية لموسكو فيها.
كانت الايام الاولى للغزو مفاجئة من حيث قدرة القوات الاوكرانية على اعادة تنظيم نفسها ومواجهة الهجمات الروسية وسوء تنفيذ واداء الجيش الروسي والتي كشفت عن عيوب تنظيمية واخطاء لوجستية وفنية واخرى تتعلق بالتدريب واختيار الوقت الملائم بالاضافة الى سوء ادارة الخطة فراهن الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص على استراتيجية دعم وارسال المساعدات القتالية الميدانية على وجه الخصوص لرفع قدرات القوات الاوكرانية باسلحة دفاع جوي ومضادات الدروع بشكل خاص ويبدوان انسحاب موسكومن محيط كييف شجعهم على ارسال المزيد وتبني استراتيجية اطالة الحرب لغرض استنزاف القوات الروسية مما يجعلها غير قادرة على تحقيق اهدافها وبالتالي خسارتها المنازلة العسكرية ومن جانب اخر العمل على تشديد العقوبات الاقتصادية ومحاولة عزل روسيا سياسيا مما يساعد كثيرا في تحقيق الاهداف في ميدان المعركة.
ولان الحرب ديناميكية ومتغيرة المواقف ومحاولة كلا الطرفين بادارة الازمة بشكل يجعلها تستغل نقاط الضعف لدى الجانب الاخر فالولايات المتحدة الامريكية واوربا التي ضحت بحاجتها الى موارد الطاقة من روسيا ومواجهة اسوء ازمة تضخم اقتصادي ونقص الغذاء الا انها وضعت كل ذلك خلفها لان الغزو الروسي كشف التهديد الامني الذي تواجهه في حالة قررت روسيا مهاجمة دول اخرى كمولدوفا اودول البلطيق الواهنة امام الدب الروسي فقررت ان توحد موقفها واستراتيجيتها في دعم اوكرانيا واستنزاف القوات الروسية واضعافها.
في المقابل، روسيا تحاول الاحتفاظ ببعض الاوراق وخصوصا الاقتصادية والسياسية لبناء خيارات تمكنها من ادارة الازمة لصالحها على الرغم بان روسيا تعلم بان سمعتها العسكرية على المحك ورغم استخدامها لبعض الاسلحة والصواريخ المتطورة والتهديد باستخدام السلاح النووي كاستعراض للقوة ومنع اي تدخل مباشر من قبل اميركا والناتوفي النزاع الجاري حاليا لذلك فانها قررت مجابهة استراتيجية الاستنزاف بتبني استراتيجية الاستنزاف ايضا ولذلك ضحت بسرعة تحقيق الاهداف وقبول بعض الخسائر وربما هي الان تعمل على اطالة فترة الحرب واستنزاف القوات الاوكرانية على الرغم من الدعم العسكري المستمر وتستند روسيا في استراتيجيتها الى عدة عوامل:
– المراهنة على انقسام الموقف بين اميركا واوربا حول اطالة امد الحرب.
– حاجة اوربا من الطاقة وان البدائل المتيسرة حاليا لا توفر الكمية المطلوبة بشكل فوري.
– الازمة الاقتصادية ونقص الغذاء وارتفاع نسب التضخم الى ارقام غير مسبوقة.
لذلك فان روسيا ستعمل على ابطاء هجماتها والاعتماد على اسلوب القضم ومحاصرة القوات الاوكرانية حيث سيؤدي الى التقليل من خسائر قواتها وايقاع اكبر الخسائر في القوات الاوكرانية، وبالتالي ترفع معنوياتهم وبهذا ستحقق لموسكو الكثير من الاهداف ان تحققت حيث في الميدان ستعمل على:
– اضعاف قدرات الجيش الاوكراني وكسر ارداته على القتال
– واستهداف الاسلحة العربية الثقيلة والنوعية وبنفس الوقت تحاول الحصول عليها سليمة وصالحة للعمل ان استطاعت.
– وربما هناك بعض من المرونة للقادة في السماح بالانسحاب التكتيكي امام القوات الاوكرانية خصوصا خارج مناطق اهداف العمليات لمنع وقوع خسائر كبيرة كالتي وقعت حول كييف نتيجة الاندفاع الغير محسوب.
يبقى الهدف الاستراتيجي الاكبر هوتحقيق الاهداف في الدونباس ومن ثم التوجه لاستيلاء على اوديسا وغلق سواحل البحر الاسود وجعل اوكرانيا دولة مغلقة بحريا.
يبدو ان ذلك ممكنا حيث ان تاثير العقوبات الاقتصادية والاستنزاف الذي تعمل عليه الولايات المتحدة لن يؤثر كثيرا على نظام سلطوي وشمولي قادر على فرض ارادته على المواطن باسلوب بوليسي كروسيا في حين يكون الاستنزاف اكثر تاثيرا على نظم ديمقراطية ليبرالية كاوروبا واميركا لان ذلك سيولد انقساما في الراي العام الداخلي وربما سيتحول التاييد التام لاوكرانيا ومع مرور الوقت عدم اهتمام خصوصا اذا كان العامل الاقتصادي يضرب وتر الحياة للافراد.
المراهنة الان من له القدرة على الاطالة في الاستنزاف روسيا ام الغرب في ظل متغيرات كثيرة وسريعة وربما سنشهد تغييرات في الميدان وخارجه تعكس كل توقعات المراقبين فالناتويرحب بانضمام فنلندا والسويد وهذا بحد ذاته واحد من مخرجات الحرب التي لم يتوقعها سيد الكرملين وخصوصا اذا استنزفت قواته في الدونباس عندها سنرى ما هي مصداقية ردود الافعال؟ وهل نحن امام خيار حرب عالمية جديدة تبدا باوكرانيا ولا نعلم اين ومتى تنتهي؟.
*خبير عسكري و استراتيجي وعميد ركن متقاعد