تسارعت الأحداث والمواقف داخل وخارج العراق على اثر الاستفتاء الذي نظمه اقليم كردستان للانفصال عن العراق في 25 ايلول 2017. كثير من هذه المواقف جاءت متسرعة ومتشنجة ودليل على حالة الغليان الذي يشهده الشعب العراقي على إثر هواجس تقسيم العراق.
وهنا أود القول إن أزمة الاستفتاء ما هي الا أزمة ثقة بين مكونات المجتمع العراقي. نجمت هذه الحالة وتراكمت بسبب الفشل السياسي الذي رافق سلوك النخبة السياسية في العراق ومن جميع المكونات. لقد تناوبت الأزمات واحدة تلو الاخرى منذ 2003 الى اليوم. من اهمها أزمة داعش في حزيران 2014، وازمة كردستان في ايلول 2017. وعلى الرغم من اختلاف طبيعة هذه الأزمات ومستوياتها منها الاجتماعية، الاقتصادية والأمنية. إلا أن السبب الأهم يعود الى الفشل في ترسيخ نظام اجتماعي عادل قائم على عملية سياسية مستقرة ذات طابع دستوري ديمقراطي.
لا يعني هذا الأمر الفشل التام للعملية الديمقراطية في العراق، حيث شهدنا طيلة العقد الماضي عدداً من الممارسات الديمقراطية التي منحت الشعب الفرصة لإختيار ممثليه في السلطات الثلاث. و من هذه الحقيقة، لا يمكننا القاء اللوم على الساسة فقط، بل يتحمل مصدر التشريع (الشعب) جزءا من المسؤولية تجاه الفشل السياسي الحالي. وعلى الرغم من التقدم الذي شهدته العملية السياسية في العراق بعد 2003 إلا أن النخبة السياسية فشلت في الخروج من دائرة المحاصصة الطائفية التي شلت حركة الإصلاح واستدرجت العملية بالكامل الى لعبة تبادل الاتهامات لاسيما حول الإخفاقات الأمنية المتتالية.
في الوقت ذاته لا يتحمل الشعب مسؤولية الأخطاء التي وقعت في الخطوات التأسيسية الاولى التي شرعت منها العملية السياسية الحالية والتي انحصرت في الأعوام 2003-2005. ومن مخرجات هذه المرحلة صياغة دستوراً للدولة انقلب عليه لاحقاً من شارك في صياغته واقراره. شخصياً أرى في الدستور مخرجاً لكل ازمة سياسية يواجهها البلد، الا انني لا اجد في قدسيته ما يمنع من التعديل عليه او حتى الغاءه. هذا الدستور والذي من المفترض أن يكون حامياً للديمقراطية ولحقوق الشعب انقلب ليكون عبء كبير على كاهل العملية السياسية. والسبب في ذلك تنصل السياسيين من جميع المكونات لإستكمال جميع الإجراءات التي نص على ضرورة انجازها بعد اقراره. ومن خلال طروحات الأخوة الكرد ظهرت بعض الإتهامات التي تشير الى اهمال 55 مادة من الدستور والتي لم تطبق ليومنا هذا ومن اهمها المادة (65) التي تنص على انشاء مجلسٍ تشريعي يُدعى بـ(مجلس الاتحاد).
فضلاً عن المادة 140/ثانياً التي تلقي المسؤولية على السلطة التنفيذية لإتخاذ الإجراءات الكفيلة بالتطبيع، الاحصاء، وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها، لتحديد ارادة مواطنيها في مدةٍ أقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الاول سنة الفين وسبعة. التلكؤ في تطبيق الدستور واخفاق الطرفين في ايجاد صيغة دستورية سليمة للعلاقة بين بغداد واربيل أدى إلى إتخاذ إجراء احادي الجانب غير قانوني يتمثل بالإستفتاء. ترجع ازمة الثقة إلى خلافات جوهرية على طبيعة وشكل السلطة في بغداد. وهذا الأمر لا ينطبق على العلاقة بين الكرد والعرب فقط بل يتسع ليشمل العلاقة بين الأفراد والجماعات سواءً على المستوى السياسي او المجتمعي، بل حتى الايديولوجي والعقائدي. تم تغذية هذه الخلافات من قبل أطراف محلية وخارجية ووصل بنا الحال الى اتساع دائرة خطاب التقسيم الى مستويات معقدة. بل شرع بعض القيادات المجتمعية من جميع المكونات للمجاهرة عن موقفها الذي يدعو الى اتخاذ خطوات شبيهة بالإقليم.
وفي ظل معطيات التأزم السياسي ظهر على السطح مشكلة خطيرة لا تقل اهمية عن خطاب التقسيم وهي تصاعد ادوار الجماعات المسلحة خارج اطار الدولة. الأمر الذي يعطل المادة 9/ب والتي تنص على “يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة”. والتي توسع دورها لتقوم بنشاطات عابرة للحدود وتدخل بتحالفات تضر بالمصلحة العليا للدولة العراقية. ادت هذه المسألة الى ان يشكك الكثير من المراقبين المحليين والدوليين بمصداقية الحكومة العراقية وقدرتها على ادارة الشؤون العامة للدولة وحفظ امنها والإيفاء بالإلتزامات الخارجية مع الدول الاخرى. وشرعت الأقلام في الخارج تكتب والأصوات تتعالى حول احتكار مكون معين للسلطة في العراق. وهم ينكرون بذلك مشاركة جميع المكونات العراقية في السلطات الثلاث. من الجدير بالإهتمام، ان هذه الإتهامات المحلية والخارجية تعطي انطباعاً خطيراً مفاده ان الدولة العراقية فقدت صفة مهمة لنجاحها وضمان ديمومتها والإستقرار فيها وهي المدنية.
إن المصدر الرئيس لأزمة الثقة هو ذاته مصدر التشريعات واقصد به طرفين وهما الشعب ومن يمثله في العملية السياسية. لذلك يجب ان يولد الحل من المصدر ذاته. لذلك يركز هذا الجزء من المقال على مشاهد الحل لأزمة الإستفتاء. تتراوح هذه المشاهد من التصعيد الى الإصلاح و كالآتي:
في المشهد الأول يتخذ رئيس الوزراء عدداً من الإجراءات الخشنة بحق الإقليم ابتداءً من السيطرة على المطارات والمنافذ الحدودية. وقد تشمل هذه الإجراءات اعادة السيطرة على المناطق المتنازع عليها و إحكام حصار اقتصادي، فضلاً عن آفاق التدخل العسكري. سيكون لهذا المشهد نتائج كارثية على اللحمة الوطنية من جهة وآثار انسانية من جهة اخرى، فضلاً عن اثار استراتيجية على الإستقرار الإقليمي.
إن الصدام المسلح سيجبر الأطراف الدولية و الإقليمية على التدخل مما قد يدخل العراق في دوامة التحالفات و سياسة المحاور المتضادة التي قد تجعل من العراق ساحة حرب مباشرة لتصفية حساباتهم. من جانب آخر، ان التدخل الدولي قد يأخذ صيغة اخرى تتلخص بقرار اممي لإيقاف الصدام المسلح و المباشرة بالمفاوضات من اجل وضع جدول زمني لإستقلال كردستان.
اما المشهد الثاني يركز على فرص الحوار بين بغداد و اربيل وامكانية الخروج بإتفاق سياسي جديد يعيد الكرد للصف الوطني ويجنب البلد التداعيات المحتملة للنزاع. ومن مقومات هذا المشهد الإلتزام بالدستور كما يفعل حالياً دولة رئيس الوزراء.
اما المشهد الثالث وهو الرسالة التي ترنو هذه المقالة ايصالها الى جميع الأطراف و قوامها الإصلاح السياسي. ان ما يشهده العراق هو ازمة سياسية عميقة لاتحل بسهولة عن طريق الإجراءات الصلبة وان يراها البعض ضرورية لبسط سيادة الدولة على جميع اراضيها. بل يجدر بالحل ان يأخذ بنظر الإعتبار مصادر الخلاف و يسعى الى تسويتها. ومن اهم مصادر الخلاف السياسي هو الدستور بحد ذاته او عدم القدرة على تنفيذه بالشكل الصحيح. و هذا ما يعرض الحل ذاته للتلكؤ لأن الدستور هو الضامن الرئيس لوحدة العراق. ومن هذا المنطلق نجد من الضروري ان تتخذ السلطة التشريعية الخطوات الآتية:
– تعديل القانون الحالي المعني بالنظام الإنتخابي.
– اعلان حالة الطواريء وفقاً للمادة 61/تاسعاً-ب. وحسب هذه المادة فإن حالة الطوارئ تمتد لثلاثين يوماً قابلة للتمديد بموافقة المجلس.
– حل مجلس النواب وفقاً للمادة 64 من الدستور.
لإستيفاء جميع المتطلبات الدستورية لإكمال اركان الحل اعلاه يتطلب الأمر دور مهم لفخامة رئيس الجمهورية و كالآتي:
– يشترط في اعلان حالة الطواريء تقديم طلب مشترك من رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء.
– لا يُحل مجلس النواب الا بعد موافقة رئيس الجمهورية.
– يدعو رئيس الجمهورية عند حل المجلس الى انتخابات عامة خلال مدة اقصاها 60 يوماً من تاريخ حل المجلس.
ان وجود رئيس الجمهورية فؤاد معصوم و دوره بهذا الحل سيعطي ضماناً وزخماً للجهود الوطنية الرامية لرأب الصدع في الصف الوطني. وذلك لأن الهدف الأساس من هذا الحل هو الدعوة الى انتخابات مبكرة تأتي بممثلين جدد عن جميع مكونات الشعب. وبعد مباشرة مجلس النواب الجديد مهامه يجب ان يضمن الامور الآتية (وحسب جدول زمني محدد) وحسب الإتفاق بين القوى الوطنية الفائزة في الإنتخابات وكالآتي:
– تشكيل حكومة الأغلبية ورفض المحاصصة الطائفية.
– تشكيل لجنة وطنية لتعديل الدستور.
– تشكيل لجنة وطنية لمتابعة التطبيع والإحصاء في المناطق المتنازع عليها.
– اعادة التفاوض بشأن العلاقة بين المركز والإقليم وتنظيمها بقانون يترجم الفقرات الدستورية المعنية بالتفصيل وفي كل المجالات.
– تعديل القوانين المعنية بالهيئات المستقلة من بينها الهيئة المستقلة للإنتخابات و الهيئة المستقلة للنزاهة.
– ضمان استقلال القضاء و احالة المتهمين بالفساد للمحاكمة.
– محاربة الجماعات المسلحة خارج اطار الدولة.
لن تلبي الوسائل الصلبة للتعامل مع الأزمة الحالية الأهداف المرجوة وان أجبرت القيادة الكردية على الإنصياع لأوامر بغداد. في مثل هذه القضايا ذات البعد القومي لن تنسى الشعوب و لن تستقر العلاقة بين مكونات الشعب العراقي و سيتصاعد الشعور بالمظلومية و الحيف. لذلك اؤكد على الحل الوطني المذكور في المشهد الثالث لإيماني في كون الأزمة الحالية فرصة حقيقية للشروع بعملية اصلاح سياسي متكاملة لبناء دولة مدنية ديمقراطية معاصرة.
د. ايلاف راجح هادي: سكرتير اول في وزارة الخارجية العراقية، رئيس قسم البحوث وتخطيط السياسات في دائرة التخطيط السياسي، دكتوراه في الفلسفة السياسية/ الدراسات الإستراتيجية من جامعة Luiss Guido Carli الإيطالية.