صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

اعتراف ماكرون.. هل نستوعب الدرس؟

لسنا يوميا أمام قرارات ذات بعد تاريخي.. بالامس أصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرارا- اعترافا رسميا بشأن احدى ضحايا حرب الجزائر، من النوع الذي يرقى الى مصاف القرارات التاريخية الحقيقية في حياة الأمم، لكن ما طبيعة هذا القرار وابعاده ومحدوديته.. جزائريا على اقل تقدير؟

في الحقيقة، قرار – إقرار الرئيس ايمانوئيل ماكرون يخص شابا فرنسيا، باحثا بالرياضيات، يساري الوجهة (ينتمي للحزب الشيوعي الفرنسي)، ومن المدافعين عن استقلال الجزائر. تم اختطافه وتعذيبه ثم قتله عام ١٩٥٧. لم يصدر بحقه أي خبر او اعتراف رسمي، رغم لجان تقصي الحقائق وعمل المؤرخين وإصرار عائلة الضحية على كشف الحقيقة.

انها المرة الاولى التي يعترف فيها رئيس فرنسي (عبر رسالة رسمية وجهها لارملة الضحية)، بأن الجيش الفرنسي في الجزائر قد اوقف زوجها (موريس أودان) وعذبه ثم قتله واخفى جثته حتى اليوم. بذلك، يكون ماكرون قد رسم حدود جريمة حرب!

ولو اكتفى الرئيس الفرنسي بهذا القدر من التبرير لاختزل الامر بحادث على هامش حرب الجزائر، لكنه يشير ولأول مرة وباسم الجمهورية الفرنسية الى وجود منظومة تعذيب كاملة كرسها واستخدمها الجيش الفرنسي بكثافة في الجزائر، وان هذه المنظومة كانت مُشرعنة من قبل الحكومة الفرنسية والقضاء والبرلمان الفرنسيين. اي، الرئيس الفرنسي يستخدم هنا حالة خاصة (الشاب الفرنسي المعذب والمقتول بأمر من احدى مؤسسات الدولة الفرنسية) للكشف عن ممارسة مشينة وغير انسانية لجيش دولته في بلد محتل (دون ان يشير الى معاناة الجزائرين).

موقف ايمانوئيل ماكرون هذا (رغم محدوديته) يعتبر عملا مهما لتصحيح حيف عمره اكثر من ستة عقود، ايضا هو قرار تربوي للاجيال القادمة بان حقوق الانسان والديمقراطية يمكن ان يتعرضا للخطر ما لم يتم الدفاع عنهما بشكل دائم ومستمر، واخيرا قرار ماكرون هو اجراء للتاريخ.

الجزائريون والمؤرخون يعرفون كل ذلك بطبيعة الحال، ولكن أن تعترف دولة بحجم فرنسا بهذا العمل، وتقر باسم زعيم الامة بأن عملها ذلك يرتقي لمصاف جرائم حرب لهو إجراء على درجة عالية من الرمزية.

هل سيكون لذلك من مستحقات اخرى؟ جزائريا: هم ينتظرون ويطالبون باعتراف رسمي فرنسي بأن حرب الجزائر كانت كولونيالية الطابع، ضحاياها بالدرجة الاولى من السكان المحليين من الشعب الجزائري (وايضا العديد من المدنيين الفرنسيين). حول هذه النقطة بالذات لم يحقق الجانب الفرنسي الا القليل من التقدم. رغم ذلك اعترف ايمانوئيل ماكرون في حملته الانتخابية، بان الكولونيالية هي جريمة بحق البشرية، وقبله تحدث الرئيس السابق فرانسوا هولند عن همجية تلك الحرب دون ان يشفع قوله هذا بعمل سياسي وقضائي ملموس وواضح. سياسيا واوربيا، هذه المواقف الفرنسية (رغم قصورها التاريخي) تصب في الاتجاه الصحيح، في الوقت الذي تشهد فيه اوربا والعديد من بقاع العالم صعودا للعنصرية والقومانية والهوياتية العدوانية.

عراقيا.. ما قيمة كل ذلك؟ للأسف، لم يفلح المشرع والقضاء العراقي في استخدام المحاكمات الكبرى لبناء ذاكرة جمعية متقاسمة، وانتاج مجتمع يتحمل وزر تاريخه المشترك، وان نرث الاجيال القادمة مادة تعليمية وتربوية عما نعنيه بجريمة حرب وجرائم ضد الانسانية. لقد حولنا محاكماتنا الكبرى الى مشاهد عقاب دون ان نبني عليها قيم مجتمع قادم.

فأي هدر عظيم هذا؟!

أقرأ أيضا