اقتباس لا ينتهي من أورويل

لم تكن الروائية الإيرلندية ناويز دولان وحدها -على أهمية دراستها البارعة عن جورج أورويل- من استَعادتْ هذا الروائي “ومتى غاب أصلا”؟ لكنه وبعد 74 عاما على رحيله، تبدو الحاجة للاقتباس مما كتبه لم تفقد تأثيرها ولن تأتي متأخرة.

اليوم تتم الاستعانة بأورويل مع تصاعد تساؤلات عما تشكله ثقافة الإلغاء كبديل رديء لحرية التعبير. وعما يمكن أن تعلمنا نصوصه عن الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على غزة. بل إن دونالد ترامب الذي لا يتوقف الجدل بشأن مفاهيمه للأخلاقيات لم يتردد في الاقتباس من أورويل للتعبير عن نفسه، لدرجة أن تصريحات ترامب زادت بشكل كبير من توزيع رواية 1984! فخلال خطاب ألقاه ترامب قال “ما تراه وما تقرأه ليس ما يحدث”.

تتساءل ناويز دولان في سؤال يبدو قائما من دون تراجع: متى ستتعب بريطانيا والثقافة السياسية والأدبية العالمية من الإشارة الإلزامية إلى أورويل؟ هذه الروائية يجمعها الكثير مع أورويل في بداية حياته، فمثلما عاش متشردا في لندن وباريس وكتب أروع نصوصه عن قذارة المدينة وإفلاس الكاتب، تعيش دولان محنتها كروائية شابة تعاني من ضغوط حياتية لا تطاق في مثل عمرها “ولدت عام 1992” لم تتحمل العيش في لندن بعد إكمال دراستها، انتقلت إلى سنغافورة وهونغ كونغ وإيطاليا للعمل كمعلمة، رغم أن شغفها بالكتابة ما يبقيها على قيد الحياة بعد أن تم تشخيصها بمرض التوحد.

ولكن كيف أصبح أورويل هو الإجابة الوحيدة على العديد من الأسئلة، في العديد من الموضوعات بالنسبة للكثير من الكتاب والصحافيين والسياسيين؟ إن اسمه يستحضر فكرة غامضة عن اللعب النظيف والحس السليم؛ ومن المفترض أن نثره البسيط يجلب الحياد الهادئ إلى عالم من المتبجحين المتحمسين.

فهل كان أورويل محايدا حقا إلى هذا الحد؟ لا شك أن معاداته للأنظمة الشمولية تتوافق مع الآراء السائدة اليوم. ولكن من قبيل التملق الذاتي أن نتصور أنه وصل إلى هذا الموقف من خلال الموضوعية التي فرضتها عليه اللغة الواضحة.

فيما تقول النظرية الأدبية في الكتابة إنك عندما تحافظ على جملك نظيفة، فإنك تمارس النظافة الفكرية “النثر الجيد يشبه زجاج النافذة”. وكلمة واحدة “أورويلية”، وفق دولان تستحضر بصيرة الكاتب العظيم حول مخاطر دولة مريبة متغطرسة، أو يسار متطرف رقابي، أو أي شيء آخر قد يثير غضبك في ذلك اليوم. بل أكثر من ذلك عندما تريد أن تفهم العمق الآسن في المدن المغلفة بالأضواء والثراء الفاحش والمعمار الباهر “عدت في قراءة ثانية لكتابه الرائع متشردا في باريس ولندن قبل أن أشرع بكتابة هذا المقال”.

في كتابه “لماذا أورويل مهم” رسم كريستوفر هيتشنز صورة لرجل كان دائما على الجانب الصحيح من التاريخ. يقول هيتشنز في حجته “ليس المهم ما تفكر فيه، بل كيف تفكر. وإن روح أورويل المستقلة ووضوحه الأخلاقي يجعلانه يستحق الثناء أكثر من أي وجهة نظر معينة كان يعتنقها”. وهذا نفي يصعب إثباته.

إن بذور هذه الفكرة المجنونة إلى حد ما، البقاء على الجانب الصحيح من التاريخ في عام 2024، كل ما عليك فعله هو الكتابة مثل رجل أمات عينيه عما يحدث حوله “غزة مثالا”. وهنا يفترض أورويل أن المحتالين والحمقى يغلفون آرائهم بعبارات غير ضرورية، في حين أننا عندما نجبر أنفسنا على الكتابة بوضوح فإننا نفكر بشكل أفضل.

ويكتب “إذا قمت بتبسيط لغتك فإنك تتحرر من أسوأ حماقات الولاء، وعندما تدلي بملاحظة غبية فإن غبائها سوف يكون واضحا، حتى لنفسك”.

هكذا يبدو أنه لكل منا “أورويله” الخاص يتوق للوصول إليه فلا نتوقف عن الاقتباس منه وسط صحافة أرادت أن تكون مستقلة وتم سحقها!

أقرأ أيضا