لو كان للتاريخ قلبٌ ينبض لكان العراق نبضه، هذه الأرض التي شهدت ولادة أولى الحضارات لم تعرف السكون يوماً، وكأنها محكومة بأن تكون ساحة للصراع ومسرحاً تتعاقب عليه الإمبراطوريات ومخزناً للأحلام والطموحات وأحياناً مقبرة لها.
لا يكاد يمر قرن إلا ويشهد العراق موجة جديدة من الغزو، فيتحول من منتصر إلى ضحية ومن ساحة للحضارة إلى ساحة للدمار، لكنه في كل مرة يعيد تشكيل نفسه كما لو أن تاريخه دائرة لا تنتهي، وكأن هويته ليست كياناً ثابتاً، بل نهرٌ يجري ويغير مساره كلما وضعت يد غريبة عليه، لكنه لا يجف أبداً.
في هذه الأرض التي احتضنت سومر وأكد وآشور وبابل، لم يكن الأمر فيها مجرد نزاع على سلطة أو ثروة بقدر ما كان صراعاً على المجد وعلى امتلاك واحدة من أقدم بقاع العالم حضارةً.
كل من جاء غازياً لم يكن يطمح فقط للسيطرة بل لإعادة تشكيل العراق وفق صورته الخاصة، لكن وكما هو ديدن هذه الأرض لم تنجح أي قوة في محو روح العراق وكانت تنتهي بأن تذوب في نسيجه حتى لو تركت فيه ندوباً لا تزول.
أرض الحضارات.. وأرض الغزاة
لم يكن العراق مجرد محطة عابرة في تاريخ البشرية، بل كان محوراً تدور حوله الأحداث، من هنا انطلقت الحضارة والحرف ودُوّنت أولى القوانين وهنا قامت أعظم الممالك التي صنعت مجد الشرق. لكن مع هذا المجد، كان العراق دائماً مطمعاً لكل من أراد أن يبسط سلطانه على “العالم”.
في البداية كانت الحروب الداخلية والصراعات بين السومريين والأكديين، بين الآشوريين والبابليين وأيضاً بين الممالك الصغيرة التي كانت تتنافس على الهيمنة داخل حدود هذه الأرض.
سرعان ما أدرك العالم الخارجي قيمة العراق فتحول إلى هدف للغزو من الخارج، عندما دخل الفرس إلى بابل عام 539 ق.م، كانوا يدركون أنهم لم يسيطروا على مدينة عادية، بل على قلب الشرق، ومع ذلك لم تستطع الإمبراطورية الفارسية محو بابل ووجدت نفسها تتبنى الكثير من ثقافتها حتى الإسكندر الأكبر، عندما اجتاح العراق عام 331 ق.م، لم يكن يريد مجرد احتلال بل حلم أن يجعل بابل عاصمة لامبراطوريته العالمية، لكنه رحل قبل أن يحقق حلمه، تاركاً العراق بين أيدي السلوقيين الذين لم يستطيعوا أن يمنعوا عودة الفرس إليه بعد قرون.
لم يكن الفتح الإسلامي عام 636 م غزوًا كغيره، هذه المرة واجه العراق فكر جديد “دين” أراد أن يغير وجه العالم وعلى عكس الغزوات السابقة، الفتح الإسلامي تجاوز الاحتلال سياسي للعراق محولاً اياه الى مركز ديني وثقافي، ومتخذا إياه عاصمة للخلافة وموطناً لأعظم العقول التي غيرت مسار الفكر.
لكن حتى هذا التحول لم يمنع العراق من أن يكون ساحة للصراعات فمع ضعف الدولة العباسية، بدأ النفوذ الفارسي يعود من جديد عبر الدولة البويهية ثم جاء السلاجقة الأتراك ثم الصفويون ثم العثمانيون في صراع لم يكن مجرد قتال على الأرض، بل كان صراعاً بين هويات متنافسة وبين المذاهب برعاية عثمانية وصفوية.
وهكذا أصبح العراق في قلب معركة طائفية لم تكن جزءاً من نسيجه الأصلي لكنها أصبحت مع مرور الزمن جزءًا لا يمكن فصله عن تاريخه الحديث.
الدمار الذي لم ينسه العراقيون
ورغم أن العراق عرف فترات من الازدهار إلا أن بعض الغزوات لم تكن مجرد تبديل في السلطة، بل كانت كوارث حقيقية، فالغزو المغولي عام 1258 م لم يكن مجرد سقوط لبغداد، بل كان إبادة حضارية بكل ما تعنيه الكلمة، بعدما كانت بغداد في ذلك الوقت درة العالم الإسلامي لم تعد كما كانت أبداً.
بعد قرنين، جاء “تيمورلنك” ولم يكن أقل وحشية من هولاكو. اجتاح العراق، ذبح سكانه، وبنى من جماجمهم أبراجاً، في مشهد لم يغب عن ذاكرة العراقيين لقرون طويلة.
بين العثمانيين والإنكليز.. عراق بلا سيادة
حين دخل العثمانيون العراق عام1534 م لم يكن هدفهم بناء دولة قوية، إذ كان العراق مجرد ولاية نائية في امبراطوريتهم الشاسعة تعيش على هامش الأحداث.
وعندما ضعفت الدولة العثمانية لم يكن للعراق جيش أو مؤسسات تحميه فكان لقمة سائغة للبريطانيين الذين دخلوا بغداد عام 1917 م، ووضعوا العراق تحت انتدابهم وكأنهم يتوارثونه كما توارثته الإمبراطوريات قبله.
لكن العراقيين لم يكونوا مستعدين للخضوع هذه المرة، فجاءت “ثورة العشرين” لتقول إن العراق لم يعد ذلك البلد الذي يرضى بأن يكون تابعاً، ومنذ ذلك الحين بدأ العراقيون يبحثون عن استقلالهم الحقيقي، وإن كان الثمن سلسلة طويلة من الانقلابات والصراعات الداخلية، والخاتمة كانت في العقدين الاخيرين وما دار فيهما من احداث انتصرت فيها ارادة العراقيين بأمل ان يغيروا مجرى التاريخ.
العراق اليوم هوية تقاوم
بعد كل هذه الغزوات هل تغير العراق؟ هل تلاشت هويته؟
لا شك وأن العراق اليوم أصبح خليطاً مذهلاً من التأثيرات، لغته تحمل بصمات الفارسية والآرامية والتركية، وثقافته مزيج من العادات السومرية والبابلية والعربية الإسلامية، وتاريخه موزع بين أمجاد قديمة وندوب لم تلتئم بعد.
لكن رغم كل هذا لم يذُب العراقي في أي هوية أخرى. لم يصبح فارسياً رغم قرون من النفوذ الفارسي، ولم يصبح عثمانياً رغم أربعمئة عام من الحكم العثماني، ولم يتحول إلى تابع لبريطانيا رغم محاولاتها إعادة تشكيله وفق مصالحها، ظل العراق “عراقياً” يحمل في داخله ذاكرة فطرية لم تستطع أي قوة أن تمحوها.
اليوم، وبعد كل هذه القرون، لا يزال العراق يواجه سؤال “الهوية” هل هو عربي بالكامل أم أنه مزيج من الشرق كله؟ هل هو سني أم شيعي، مسلم أم مسيحي، قومي أم تعددي؟
ربما ليس هناك إجابة واحدة، لكن الأكيد أن العراق لم يكن يوماً مكاناً يمكن اختزاله في تعريف بسيط.
إنه تاريخ يمشي على الأرض وذاكرة مفتوحة ونهرٌ يحمل داخله كل ما مر به “لكنه لا يتوقف أبداً عن الجريان”.
ووسط كل هذا يبقى السؤال الأهم: هل يستطيع العراق اليوم أن يكسر حلقة الغزوات أم أن تاريخه سيظل يعيد نفسه، كما لو أن هذه الأرض مكتوب عليها أن تبقى أبداً ساحة للصراع؟