إن كنت إسلامياً أو علمانياً فمن الضروري أن تعرف الى أي مدى يتوافق الإسلام مع العلمانية أو يتعارض حتى لا يمكن أن يتحول نظام سياسي ودين الى متاجرة لناشطين أو لرجال دين يخلطون الأمور بمكاسب شخصية، وسرعان ما تتحول هذه الأصوات لخلق تيار هش لا يستند الى أي مقومات علمية ودينية لتدعمه، من هذا المنطلق نرى هنالك ضرورة أساسية لبيان جدلية الإسلام والعلمانية.
ما هي العلمانية؟
من حيث التعريف، فليس هنالك تعريف واحد متفق عليه للعلمانية، إذ أن لها تعاريف متعددة، لكن جميعها تتفق على مبدأ أساسي وهو “الفصل بين مؤسسات الدولة والسلطة الدينية”، وهذا يعني أن السلطة القضائية والتشريعة والتنفيذية لا تستند في أحكامها وتشريعاتها الى أحكام الدين وتشريعاته وفقهه وهو المصداق الأمثل لقول المسيح «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ» (مرقس 12: 7).
هل هنالك قيصر إسلامي؟
في الإسلام لا يوجد قيصر، فكل شيء لله، الحكم والتشريع، الدين والدنيا، فقد أكد الله في القرآن بأكثر من موضع أن الحكم لله، وبما أنزلهُ: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” (المائدة:44)، قال الإمام ابن باز “أما من حكم بغير ما أنزل الله يعتقد جواز ذلك، أو أنه أفضل من حكم الله؛ فهذا كافر كفر أكبر، بعض الناس -نعوذ بالله- يعتقد أن الحكم بما أنزل الله مضى زمانه، وأنه لا يليق بأهل الزمان، وهذا من أعظم الكفر، نسأل الله العافية”، أما السيد قطب، فيقول في الدولة الإسلامية “الإسلام دين واقعي، يُدرك أن النّواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي، ويُدرك أن الدّين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة، وأن الدّين هو المنهج أو النّظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية، وليس مجرّد مشاعر وجدانية تعيشُ في الضّمير بلا سلطة وبلا تشريع وبلا منهج محدد ودستور معلوم”، نظّر السيد قطب بشكل تفصيلي للدولة الإسلامية في كتابه “معالم في الطريق” الذي يمثل نقطة مهمة في بناء دولة دينية لا علمانية، أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال في “مجموع الفتاوى”3/267” والإنسان متى حلَّل الحرام المجمع عليه أو حرَّم الحرام المجمع عليه أو بدَّل الشرع المجمع عليه كان كافرا مرتدًّا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة:44] أي المستحل للحكم بغير ما أنزل الله“. أما الإمام الغزالي فيقول في حكم الشريعة “…واعلم بأن الشريعة أصل والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع…”.
السيادة في الفكر الإسلامي المعاصر
قبل الإجابة على سؤال لمَنْ السيادة في الدولة الإسلامية لابد من الإشارة لآراء بعض الباحثين الإسلاميين الذين يرفضون مبدأ السيادة باعتباره مفهوم غربي بعيد عن الإسلام ومنها “فالشريعة إنما عرفت السلطة والسلطان، أما السيادة بهذا المعنى فـ”إن الاعتراف بالسيادة لأي جهة إنسانية فكرة بعيدة عن الإسلام” (فقه الشورى والاستشارة لتوفيق الشاوي 574)، كذلك رأي فتحي عبد الكريم في كتابه الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي ص 288 “أن النظرية الإسلامية لا تعرف مثل هذه السلطة المطلقة، وإنما السلطة طبقاً لها ترد عليها قيود مهمة”.
أما غالبية الباحثين المعاصرين فقد أجابوا عن هذا التساؤل، وبناءً على أجوبتهم يمكن تقسيم السيادة في الدولة الإسلامية الى ثلاث اتجاهات “تناول الفكر الإسلامي المعاصر هذه المسألة، فظهرت ثلاث نظريات، الأولى وترى أن السيادة للتشريع الإلهي، والثانية ترى أن السيادة للأمة، والثالثة أطلق عليها نظرية ازدواج السلطة تقودنا جميعاً إلى سيادة للأمة الإسلامية مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة وهي سيادة التشريع المنزل من عند الله” (البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي في الفكر السياسي الحديث لأحمد فؤاد عبد الجواد 347).
الاتجاه الأول: السيادة للشريعة الإسلامية
قال د.عبدالحكيم العيلي في الحريات العامة ص 215: “ومضمون ذلك التفرقة بين السيادة وبين سلطة الحكم، فالسيادة بيد الله وحده، أما سلطة الحكم فهي مفوضة إلى الأمة تمارسها في حدود السيادة”.
وقال الأستاذ محمد أسد في نظام الحكم في الإسلام ص 81: “أما الدولة الإسلامية ولو قامت كنتيجة لإرادة الشعب فظلت خاضعة لإشرافه؛ فإنما تستمد سيادتها من قبل الله، فإذا سادت وفق الشروط الشرعية فلها على رعاياها حق الطاعة والولاء”.
وغيرهم الكثير من الباحثين من المؤيدين لهذا الاتجاه مثل أبوالأعلى المودودي في كتابه الخلافة والملك؛ أحمد محمد أمين في كتابه الدولة الإسلامية والمبادئ الدستورية الحديثة، وهبة الزحيلي في كتابه نظام الإسلام، محمد العربي في كتابه دولة الرسول في المدينة، صلاح الصاوي في كتابه نظرية السيادة، عبدالكريم عثمان في كتابه النظام السياسي في الإسلام.
الاتجاه الثاني: السيادة للأمة
قال د. محمد ضياء الدين الريس في الإسلام والخلافة في العصر الحديث ص 211: “فهي التي تقوم على الشورى في مبدئها في سيرها وقانونها، شرع الإسلام والحاكم ليس إلا منفذاً للشريعة، والأمة هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات”.
وقال د. قحطان الدوري في كتابه الشورى بين النظرية والتطبيق ص 102: “الأمة هي صاحبة السلطة العليا في البلاد، فهي الموجب الأول في العقد للإمام ولأعضاء مجلس الشورى، وهؤلاء هم الذي يمثلونها وينطقون باسمها، وهم الذين يسنون القوانين على ضوء ما جاءت به الشريعة، ويسوسون الناس بما يرضي الله ورسوله، والأمة مشرفة عليهم ومراقبة لأعمالهم تعدّل الزيغ وتقوّم المعوج”.
الاتجاه الثالث: التوفيقي
هو محاولة للتوفيق بين الرأيين والجمع بين الاتجاهين، فجعل هناك سيادة للشريعة وسيادة للأمة في الوقت نفسه”، ويظهر هذا في النظريات السياسية الإسلامية لمحمد ضياء الدين الريس؛ ونظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين لحمد محمد الصمد.
الاتجاهات السياسية عند الشيعة:
[تتمركز اشكالية الفكر السياسي الشيعي الحديث والمعاصر حول محاولة تحديد اجابة السؤال التالي: لمن الولاية في غياب الإمام الثاني عشر (عليه السلام)؟ هل هي للفقيه الجامع للشرائط؟ أم للأمة؟ أم لهما معا؟ (د.على فهد الزميع- في النظرية السياسيةالإسلامية، ص335)]
تقسم الاتجاهات السياسية عند الشيعة الى اتجاهين أساسيين:
الأول: الحكم للولي الفقية ويقسم الى مسارين:
أ- ولاية الفقية المطلقة وهذا رأي الأمام الخميني
ب- ولاية الفقية على مبدأ الشورى وهذا رأي السيد محمد باقر الصدر
والثاني ولاية الأمة:
من أبرز الفقهاء الداعين لهذا الاتجاه هو الشيخ النائيني، والشيخ محمد مهدي شمس الدين والمرجع المعاصر علي السيستاني.
يؤيد المرجع السيستاني ولاية الأمة على نفسها، وقد أشار لهذا الاتجاه في عدة مناسبات، ومنها ما ذُكر في خطبة الجمعة (17 ربيع الأوّل/ 1441هـ)، إنّ “الحكومة إنّما تستمد شرعيتها من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعيّة غيره”، أو ما ذكره بأحد أجوبته لصحيفة واشنطن بوست “يفترض بالحكومة التي تنبثق عن إرادة أغلبية الشعب أن تحترم دين الأغلبية وتأخذ بقيمه ولا تخالف في قراراتها شيئاً من أحكامه” كذلك في إجابته على سؤال لصحيفة بايونير الهندية حول إمكانية اقتراح أسماء على مجلس الحكم كخبراء لكتابة دستور عادل ومناسب للعراق، فالإجابة كانت “من يكتب الدستور العراقي القادم يجب أن يكون منتخباً من قبل الشعب العراقي ولا شرعية لآلية التعيين” في كل تلك الاجابات كان المرجع السيستاني يشير بشكل واضح لولاية الأمة على نفسها.
إذا كان المرجع السيد السيستاني مع ولاية الأمة على نفسها فلماذا يعتبره البعض مدنياً علمانياً؟
لعل هذا الادعاء من أبرز الاشكاليات التي تُنسب للمرجع السيستاني، إذ يحاول البعض خلق مرجع ديني يتناسب مع مصالحه وتطلعاته غير آبه بالموضوعية التي تستوجب الحديث بمنطق علمي، فالسؤال الموضوعي أين ومتى ادعى المرجع السيستاني أنه مدني بمعنى عزل الدين وأحكامه وتشريعاته عن الدولة، بهذا المعنى الصريح للعلمانية؟ فالعكس هو الصحيح ولو رجعنا لإجابات المرجع السيستاني بهذا الخصوص سنجده يصرح بشكل واضح أن على الحكومات أن لا تُخالف بقراراتها أحكام الدين، في إجابات قدمها السيستاني على أسئلة صحيفة واشنطن بوست، إذ نجد إجابته على السؤال الخامس للصحيفة: ما هي العلاقة بين الدين والدولة؟. الجواب: يفترض بالحكومة التي تنبثق عن إرادة أغلبية الشعب، أن تحترم دين الأغلبية وتأخذ بقيمه ولا تخالف في قراراتها شيئاً من أحكامه.
كذلك في إجابته على السؤال العاشر للصحيفة: ما هو أكبر خطر وتهديد لمستقبل العراق؟ فكان الجواب: “خطر طمس هويته الثقافية التي من أهم ركائزها هو الدين الإسلامي الحنيف”.
كذلك في إجابته على السؤال الثالث لصحيفة بايونير الهندية “ما الذي ترغبون بإدخاله في الدستور من مبادئ الحكومة والقانون الإسلامي؟ فكان الجواب: “الثوابت الدينية والمبادئ الاخلاقية والقيم الاجتماعية للشعب العراقي يجب أن تكون الركائز الأساس للدستور العراقي القادم”.
كل الإجابات التي قدمها المرجع السيستاني لم تشر للعلمانية، لا من قريب أو بعيد لفصل الدين عن الدولة، بل كانت إجابات واضحة تعتبر الدين الإسلامي ركن أساسي لا يمكن تجاوزه في كتابة الدستور باعتباره ركيزة أساسية، وكذلك القانون الذي لا يمكن لأي حكومة أن تخالف بقراراتها شيئاً من أحكام الإسلام، اما اجتماعياً فقد عد السيد السيستاني طمس هوية المجتمع الثقافية التي من أهم ركائزها الدين الإسلامي أكبر خطر يمكن أن يهدد مستقبل العراق.