صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الإعلام المنفلت 

ليس السلاح وحده منفلتا في العراق، بل أن الإعلام منفلت هو الآخر .. وثمة بلدان في المنطقة لا تعاني من السلاح المنفلت، ولكنها تعاني من الإعلام المنفلت. ولقد شكلت مواقع التواصل الإجتماعي البديل السهل لمنافسة الإعلام المقروء دون أن تحدها قوانين ذات بعد علمي ووطني يسهم في إرساء سفينة الوطن عند الموانئ الجميلة والهادئة!

 

ولعل الخراب الأكبر يتمثل في الإعلام المرئي أكثر من المقروء لأنه سهل التلقي ويقدم للمتلقي دونما جهد يذكر في التصفح الورقي المطبوع والذي يطلق عليها “الجريدة أو ألصحيفة”. وعوامل الخراب والصورة الفضائية المنفلتة لها تاريخ وقوى تهيمن عليها يخاف المعنيون من المثقفين المساس بهذا التاريخ خشية التندر بنظرية المؤامرة التي سعت مؤسسات الإعلام المرئي بوعي منها لتسخيفها كي يصبح طريق التلقي والخراب سالكا..!

 

يعود تاريخ الصورة المتحركة للعام 1894 الذي ينسب للأخوين لومير في فرنسا، فيما ثمة تجارب سبقت هذه الحصيلة تنسب الأمريكي “توماس أديسون” وقبله إلى البلجيكي “جوزيف بلاتو” ومحاولات ممثالة للبريطاني “مارك روجيه” ويتفق الباحثون في علم البصريات على أهمية أكتشاف حقيقة الصورة للعالم البصري “من البصرة” أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم “965 – 1040 م”

 

 وحين كان العالم يخطط لدولة قومية لليهود عام 1897 أي بعد ثلاث سنوات من إختراع الصورة المتحركة وبعد سنتين من مشاهدتها عام 1895 أدرك الإحتكاريون المجتمعون في مدينة بال \ بازل في سويسرا بقيادة “ثيودور هرتزل” خطورة هذا الإختراع وأهمية إستثماره لصالح إقامة ما يسمى بالوطن القومي لليهود بعد أن إختاروا فلسطين وشعبها ثمنا لتقديم تلك الهدية “الدولة العبرية” ليهود العالم لتبقى قاعدة عسكرية وشرطي مراقب لمنطقة الشرق الأوسط الغنية بالموارد الطبيعية وبالشمس!

 

وخلال عمر الصورة المتحركة وما تبلور من أسس ونظم وقوانين إعلامية والتي تمكنت الدولة العبرية من الهيمنة عليها بإمتياز .. وقعت الحكومات غير الجديرة بحلم المجتمعات المشروع، بأخطاء تمثلت وتتمثل بما يسمى الإعلام المنفلت وهو غير محسوس ماديا كما السلاح المنفلت الذي يودي يحياة الإنسان والناس، فيما الإعلام المنفلت هو الأخطر، لأن الإعلام المنفلت يترك الإنسان حياً ولكنه يعيش مديات مشوهة على كافة الصعد الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وتتفاعل إجتماعيا نحو الخراب في حال لم تستطع الدولة تشكيل الرقيب الوطني المتسم بالوعي العالي لخطورة هذه الأداة الإعلامية .. وعلميا فإن للصورة المتحركة تأثيرات غير التأثير السيكلوجي والسياسي والإجتماعي والإقتصادي، وهو التأثير الأمني والفيزيائي!

 

الباحثون في علم الإعلام وإستخدامه بطريقة تتفوق على فوضى السلاح المخطط لها، يعرفون ويدركون من خلال دراسات وإحصائيات مدى تأثير الصورة المتحركة فيزيائيا على المتلقي .. وإن ملفات المؤسسات الأمنية تزدحم بالجرائم التي تقود مرتكبيها لهذا النمط من السلوك من خلال التأثيرات الفيزيائية، حيث إن الصورة في أصولها العلمية تبقى في قرنية العين أقل من عشر الثانية وتتوالى خلال أربعة وعشرين وأحيانا خمسة وعشرين صورة في الثانية، ثم تخزن بالعقل الباطن مثل بذور النباتات وسواها، فتنتج الجريمة المنظمة يحركها اللاوعي حين يكون العقل الباطن أرضا خصبة للتفاعل .. وثمة أمثلة من الصعب حصرها من الجرائم لا ترغب مؤسسات الأمن في العالم كشفها لأنها تتناقض وفلسفة الإحتكار والهيمنة، هذا إضافة إلى المخاطر الأمنية للأقمار الإصطناعية التي تستثمر للتنصت على مؤسسات الأمن والإستخبارات العسكرية .. وللعلم فإن الأنسان الذي يستعمل سماعة الأذن وجهاز إستقبالها بحجم رأس الدبوس قادر على إستقبال الإتصالات اللاسلكية بين المؤسسات الأمنية على مسافة أكثر من كيلومتر، فيما تحتوي الصحون الفضائية للقنوات التلفزيونية وأجهزة “الأس أن جي” على تقنية الإستقبال والبث عبر عملقة الصحون الفضائية وأجهزة الإستقبال والبث للقنوات الفضائية ولشركات الهواتف النقالة على حد سواء .. ومن خلالها تمتلك المؤسات الأرهابية وبشكل منظم وذكي المعلومات الكاملة لتحرك القطاعات العسكرية وتحركات وأسماء أجهزة الأمن والإستخبارات .. ومن هذا الإدراك عمدت الكثير من البلدان المستقرة والحريصة سواء على شعوبها أو على وجودها في مواقعها وحماية هذه المواقع، إلى إنشاء المدن الإعلامية بعيدا عن مواقع السلطة وإستأثرت هي بالصعود على الأقمار الأصطناعية ونظمت القوانين التي تفرض وجودها على المؤسسات الإعلامية حتى تحول دون إنفلاتها وبطريقة فيها الكثير من حرية التعبير “المسؤول” وليس المنفلت ناهيك عن إستبعاد أصحاب المشاريع المتمثلة بغسل الأموال وأصحاب المشاريع السياسية الخاضعة لأجندات “برانية” من العبث في الفضاء الرحب وتلويثه بشتى الألوان والأصوات التي تمر عبر قرنية العين .. وقد حجبت أكبر الدول التي تدعي حرية التعبير بث جريمة جامعة كاليفورنيا بعد أن تكررت بخلال أسبوع في جامعة ثانية بنفس الآلية بسبب البث التلفزيوني الأول، وهم يعرفون التأثر والتأثير الفيزيائي للبث التلفزيوني .. كما وإن نسبة كبيرة من عمليات الإنتحار الأرهابي أو الإنساني يحصل من خلال هذا التأثير الفيزيائي على المتلقي!

 

أكثر البلدان التي تأثرت سلبا بالإعلام المنفلت هو العراق حيث يعيش فوضى إعلامية غير مرئية في خفاياها .. ولإنقاذ العراق من الإعلام المنفلت ينبغي وضع قوانين من ذوي التخصص والخبرة وهي على المستوى التطبيقي أسهل بكثير من تطبيق قوانين السلاح المنفلت المخزون لدى المليشيات، فيما هو الأكثر خطورة لأنه يترك في الواقع مجتمعا مشوها بعكس السلاح الذي ينهي حياة الفرد والأفراد .. وبعد أن يصار لوضع قانون للإعلام يصار إلى بناء المدينة الإعلامية بعيدا عن مراكز المدن وتبث من خلال تلك المدينة الإعلامية، كافة الفضائيات المرخصة بقوانين صارمة أكاديمية، وطنية، وعلمية .. وهذا القانون في حال تم إقراره سوف يخلص شبكة الإعلام العراقية من حوالي أربعة آلاف ومائتي منتسب غير عامل وغير منتج، وحتى لا مكان لإستيعابهم في مبنى الفضائية العراقية .. وتأهيلهم ليكونوا جنودا بدائل عن الإعلام المنفلت ويؤهلون لإدارة مدينة الإعلام خارج العاصمة العراقية يقدمون حزم البث لمؤسسات إعلامية نظامية تسعد المجتمع العراقي وتقوده نحو الحياة الصحيحة الجديرة بتاريخه الحضاري في المسار الإنساني.

 

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

 

 

أقرأ أيضا