في معرض البحث بموضوع إغتيال الصحفيين والإعلاميين العراقيين “وإفلات القتلة من العقاب” أجرت باحثة عربية معي، حديثاً عن هذا الموضوع عبر السكايب، وسألتني إن كان بإمكانها أيضاً تسجيل الحديث. كان يمكن أن تسجله دون درايتي، ولكن شرف المهنة إقتضي ذلك. موضوع أفلات قتلة الصحفيين العراقيين من العقاب، هو موضوع البحث للمؤسسة التي تعمل فيها السيدة الباحثة العربية، بدعم من منظمة اليونسكو، وبدعم من منظمة صحفيين بلا حدود العالمية ورئيسها السيد “BORIS VAN WESTERING“
ليس العراق وحده قد جرى ويجري فيه إغتيال نشطاء الصحافة من الصفوة المبدعة والمؤثرة من الصحفيين، بل أن أغلب صحفيي الشرق الأوسط “العربي” أكثر تعرضاً للإغتيال ومن ثم إفلات القتلة من العقاب! لكن العراق هو حالة إستثنائية في العالم بالنسبة لمعدل الإغتيالات بين صفوف الصحفيين والإعلاميين والمثقفين والأكاديميين والعلماء، حتى أصبحت الظاهرة ملفتة للنظر، كما أن ظاهرة الإفلات من العقاب ملفتة للنظر أيضاً، ومبعث تساؤل، لماذا يستهدف العراق بالإغتيالات، ولا تحصل مثل هذه الإستهدافات في بلدان الجوار، وكافة بلدان الخليج على سبيل المثال؟!
في العام 2019 ترأست في بغداد ندوة بإشراف منظمة صحفيين بلا حدود، لمناقشة إغتيال الصحفيين العراقيين، وفي كلمتي قلت، بأن عدد الصحفيين الذين تم إغتيالهم في العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري حتى العام 2019، قد جاوز الستمائة صحفي، إغتيلوا بشكل مباشر، كما إستشهد ضحية التفجيرات التي تسود الواقع الأمني العراقي، مائتين وسبعة وستين صحفياً.
التفجيرات التي أودت بحياة عشرات الآلاف من العراقيين وراح ضحيتها المئات من شهداء الصحافة العراقية، كانوا أما بصدد تغطية الأخبار، أو كان تواجدهم صدفة في مكان اٌلإنفجار. هذه التفجيرات هي”داعشية” بإمتياز. والدواعش ليسوا بمنأى عن التنظيمات الإرهابية الدولية، التي تستهدف العقول العراقية والوجود العراقي، وهم البعثيون الذين تبنوا فكرة المرحلة الإيمانية، التي أطلقها الدكتاتور العراقي في آخر أيام حكمه، محاولا إستجداء العواطف الإسلامية، كي تقف إلى جانبه في هزائمه الأخيرة. ولقد نظموا أنفسهم بعد سقوط نظام الدكتاتور، ليس بعيداً عن المنظمات الإرهابية في العالم، وأصبحت لهم حواضن ومحطات عربية ودولية، وتمويل عربي معروف الهوية، ويتحركون بحرية في تنقلاتهم، بل وفي سيارات “تويوتا” رباعية الدفع رمادية اللون، ولا أحد يسأل الشركة المنتجة للسيارات عن الأشخاص أو المصارف التي أمنت لهم الصفقة المالية؟! مع حرية التحويلات المصرفية، وكانوا في بدأية تأسيسهم يستهدفون العراق معتقدين بإمكان عودة حزب البعث للسلطة، فعمدوا على إرباك الأوضاع الأمنية في العراق، من خلال التفجيرات والإغتيالات المباشرة للعقول العراقية وللإعلاميين العراقيين، تمهيداً للفصل الثالث والأخير من المسرحية. وحين تمكن الإرهابيون الدواعش من إحتلال مدينة الموصل بهدف إحتلال العراق، فإنهم قاموا بإختطاف 48 صحفياً، أعدم منهم وبطريقة بشعة، ثلاثة عشر صحفياً، وإختفى مصير عشرة صحفيين، وأودع االآخرون في سجن بادوش بالموصل وتحت تعذيب يومي، هذا إضافة إلى تهديم المؤسسات الإعلامية الإذاعية والتلفزيونية في المدينة!
وفي العام 2012 أصدرت نقابة الصحفيين العراقيين قائمة بثلثمائة وثلاثة وسبعين صحفياً تم إغتيالهم أو أختفوا من الوجود، ولم يعرف عنهم شيئاً “حسب ما نشرته الآرتي الروسية في 30\12\2012 .. كان يمكن منذ إغتيال أول صحفي في العراق، أن يعلن الصحفيون إضرابهم الدائم عبر نقابتهم، بل وبدعوة من النقابة، بالتوقف عن العمل الصحفي لحين القبض على القاتل، ومعرفة دوافع القتل، وإشراك النقابة في عملية التحقيق، ولو حصل ذلك منذ الشهيد الصحفي الأول، لربما كان الأمر مختلفاً، ولكن ذلك لم يحصل!
فمن قتل هذا العدد الهائل من صفوة مثقفي العراق من الصحفيين والباحثين والإعلاميين، ولماذا يستهدف العراق دون غيره بهذا الزخم من الإغتيالات، وكم من الزمن يحتاج الوطن العراقي، وتحتاج الأوطان، كي يبزغ من بين مثقفيه ومثقفيها، صحفي يتسم بالوعي والنباهة والشجاعة والوطنية وشرف المهنة، حتى يخسر العراق وشعبه هذا العدد من كوكبة الصحافة المبدعين؟! فإذا أضفنا لهذا الرقم عدد الصحفيين والمثقفين الذين تمت تصفيتهم في الحقبة الدكتاتورية منذ السابع عشر من تموز 1968 وحتى التاسع من أبريل 2003 فإن الرقم يصبح مخيفاً، ويصبح الواقع مرعباً.
إن شكل الإختفاء في الحقبة الدكتاتورية المذكورة، لا يتمثل في عملية الإغتيال المباشر في الشارع، وتحت رؤية عدسات الكاميرات، ولكن الموت والإختفاء يتم بالتصفية الجسدية تحت التعذيب، في ما أطلق عليها دولياً “بيوت الأشباح” لأنها بيوت غير معرفة قانوناً ” حيث تجري التصفيات في تلك البيوت، وتجري المحاكمات، وتنفذ الإعدامات تحت شرعية القانون بتهمة شتيمة السيد الرئيس أو السخرية من السيد الرئيس أو أقرباء السيد الرئيس أو الحزب الحاكم. ولا توجد تسمية محددة لهذه البيوت، بعد سقوط نظام الدكتاتور، بل ولم يكشف النقاب عنها، ولم يحاكم جلادوها، بل تحول الجلادون، إلى نجوم “يتلون” مذكراتهم أمام مقدمي ومقدمات البرامج التلفزيونية، ويظهرون على شاشة التلفاز، بربطات عنق حريرية ويتسلمون نقوداً مقابل “تلاوة” تلك المذكرات، وهم يتمتعون برواتب تقاعدية باذخة!
فمنذ نهاية الستينات قامت في العراق دولة بوليسية، أكثر البلدان البوليسية والشمولية قسوة وعنفاً في التاريخ القديم والحديث، فغيبت وأعدمت العديد من الصحفيين والمطربين والإعلاميين بدون مساءلة، ووفق قوانين شرعتها هي، بدون رقابة قانونية دولية، كان يمكن أن تطرد هذه الدولة البوليسية ومن يديرها، أن تطرد، من المنظمة الدولية لعسفية هذه القوانين وغرائبيتها، التي راح ضحيتها المشرعنة، من الصحفيين، “قيس الآلوسي، رياض البكري، ماهر كاظم، شمس الدين فارس، الدكتور راجح، محمد الخضري، عبد الجبار وهبي أبو سعيد، عزيز السيد جاسم، الأعلامية المذيعة راجحة خضير، الفنان صباح السهل .. وبعد حملة هذه الإعدامات إضطر المثقفون الإعلاميون العراقيون لمغادرة العراق، فتجمع في بيروت وحدها وفي صفوف المقاومة الفلسطينية أكثر من ألف إعلامي ومثقف عراقي، وبدأ نظام الدولة البوليسية في العراق، يلاحقهم في بيروت، وإغتال منهم خالد العراقي وفهد العراقي إضافة إلى أحد كوادر الإعلام من التنظيم الطلابي.
وخلال سفرة كوادر شيوعية عراقية من لبنان إلى شمال العراق، وأغلبهم من الإعلاميين والإكاديميين، تمت تصفية ما يقرب من مائتي أسير منهم في منطقة “بشتاشان”، مرة واحدة من قبل المسلحين الأكراد التابعين لحزب الإتحاد الوطني الكوردستاني، كرشوة للنظام البوليسي العراقي الذين كانوا متوجهين للتفاوض معه. ومعروفة أسماء الشهداء وأسماء القتلة! وكلهم أفلتوا من العقاب، وحتى بعد سقوط النظام في العام 2003 لم تجر محاكمتهم ولا محاكمة رموز النظام عن الجرائم التي أرتكبت بحق المثقفين والإعلاميين!
أما الإغتيال في حقبة ما بعد الدكتاتورية، فإن ذلك يجري أمام عدسات الكاميرات في شوارع المدن العراقية، تحت أنظار دولة فاشلة، لا تستطيع كل منظمات حقوق الإنسان وحريات الرأي بمجموعها أن تعيد الحياة للمفقودين والشهداء ولا أن تبعد شبح الخوف والموت عن الصحفيين والمثقفين الأحياء، ولذلك يتضاعف عدد المغدورين، وكل حقبة بشهدائها، تنسينا شهداء الحقبة السابقة ..! فنحن إذاً أمام عمل منظم لا يمكن أن يحدث مصادفة ولم يكن صدفة أو حالة إستثنائية .. نحن أمام منظمة دولية سرية ذات بعد عالمي تستهدف هذا البلد أو ذاك، وبتنفيذ عناصر محلية الصنع!
“لبنان” الجميل الذي كان يمثل الرئة التي يتنفس منها العرب، أستهدف هو الآخر من قبل تلك المنظمة العالمية السرية. فمنذ أول شهيد للصحافة اللبنانية عام 1915 محمد المحمصاني” والشهداء الأوائل “عبد الكريم الخليل، وعبد القادر الخرسا، ونور الدين القاص” مروراً بشهداء العصر، كامل مروه وأدوار صعب وسليم اللوزي ونقيب الصحافة رياض طه وسهيل طويلة وحسين مروة وإنتهاءاً وليس نهاية بـ “سمير قصير وجبران تويني” فإننا لم نتعرف على القتلة!
وثمة دولة غريبة الأطوار وتتغنى عالمياً بالديمقراطية والتحضر، تنفذ الإغتيالات بإعجاب ومع سبق الأصرار!
في يوم ما من شهر حزيران من عام 1972 كنا غسان كنفاني وأنا، خارجين من عملنا في مجلة الهدف في كورنيش المزرعة ببيروت، في طريقنا إلى مطعم فلسطيني لنتاول غداء “المسخن” في شارع ستراند ببيروت، فقال لي “غسان كنفاني” أنني مشروع إغتيال قريب، سألته كيف، قال لي أن مندوب “إسرائيل” في الأمم المتحدة قد أشار لي في كلمته بالأسم وإعتبرني أهدد كيان دولة إسرائيل، بمقالاتي التي أنشرها في مجلة الهدف!
بعد أسبوعين من ذلك التاريخ وبالتحديد في الثامن من شهر يوليو 1972، تم تفجير سيارة غسان كنفاني في بيته في منطقة الحازمية مع إبنة أخته لميس .. وحين بلغ الخبر للدولة العبرية، صرحت “جولدا مائير” رئيس وزراء الدولة العبرية “اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح، فغسان كنفاني بقلمه أكثر خطراً على إسرائيل من ألف فدائي مسلح”، ثم توالت الإغتيالات والإعلان عنها بإمتياز بذات الإعجاب بقدرات “موساد الدولة العبرية” فلقد إغتالوا من الصحفيين والإعلاميين كمال ناصر وماجد محمد عبد القادر أبو شرار وناجي سليم حسن العلي، ويوسف حسين أبو صلاح في إذاعة الأقصى المحلية، وإبراهيم مصطفى ناصر وهاني جوهرية من مصوري الثورة الفلسطينية، ومحمد عبد الله العزام بمركز الأبحاث الفلسطينية وحنا عيد مقبل رئيس تحرير جريدة فلسطين “تم إغتياله في قبرص” ومحمد عبد الكريم البنشاوي بقصف صاروخي من طائرة وهو في مركز الدراسات والإعلام وخليل محمد الزين مدير المكتب الصحفي للرئيس الراحل ياسر عرفات وشادر حمدي عياد وحامد عبد الله شهان قصف وهو في سيارته .. ولعل جريمة محاولة إغتيال الكاتب والصحفي الكبير “بسام أبو شريف” هي جريمة تليق بالكيان المنفذ، ولا تليق بالمناضل المبدع “أبو شريف” حين وضع الكيان متفجرة في كتاب مفرغ أنفجر في وجهه، فأفقده عينيه وأصابعه. لاحظ دلالة الجريمة “الكتاب والأصابع والعينين” في إغتيال صحفي وكاتب مرموق، هذا إضافة إلى ستة عشر صحفياً سجيناً، لا أحد يعرف على وجه الدقة عن حياتهم الصحية ووسائل التعذيب التي يتعرضون لها!
فالدولة العبرية تعلن عن عمليات الإغتيال والتصفيات أمام الرأي العام العالمي ولم أسمع يوماً، سوى ما ندر، وبشكل خجول، عن إدانة هذه الدولة العبرية، التي لن تخاف العقاب، فيما ينبغي في مثل هذه الجرائم المعترف بها بحق الصحفيين وأصحاب الفكر، أن تحال حكومات ورؤوساء الدولة العبرية إلى محكمة جنايات الحرب في لاهاي، فيما إنشغلت هذه المحكمة ولأكثر، من سبع سنوات في محاكمة المتهم الليبي “محمد عبد الباسط المقرحي، بتهمة تفجير طائرة لوكربي ومات في السجن بعد أن ثبتت براءته من التهمة “لا إسرائيل ولا أمريكا وقعتا على قرار تأسيس محكمة جنايات الحرب” فما قيمة البحث عن الإفلات من العقاب من قبل منظمة صحفيين بلا حدود ومؤسسات البحث ومنظمات المجتمع المدني، في صفوف أشباه الدول التي تنفذ الجرائم بحق الصحفيين وفق أجندات محلية وأخرى خارجية تحركها منظمات سرية دولية بأدوات تنفيذ محلية الصنع؟
إن عدد شهداء الكلمة وشهداء الصحافة من الإعلاميين والأكاديميين في العراق وخلال ما يقرب من تسعة عشر عاماً بعد سقوط الدكتاتور، قد جاوز الألف شهيد ومن الصعب تدوين إسمائهم في مقال، ولكن من الجدير بالذكر بأن هناك صحفيين تم إغتيالهم من قبل القوات الأمريكية وقوات التحالف، في السنوات السبع الأولى بعد سقوط النظام الدكتاتوري، وقد بلغ عدد شهداء الصحافة على يد القوات الأمريكية سبعة عشر شهيداً. وهناك كثير من حوادث إغتيال الصحفيين قد نفذت بدوافع “الإستهتار” إغتيال الصحفي محمد بديوي في الجادرية، وإغتيال الصحفي “سردشت عثمان” في أربيل، وإغتيال الصحفي الكردي وداد حسن علي بعد إختطافه في شمال العراق، وإغتيال الممثل الجميل كرار نوشي في الكرادة ببغداد، ورميه في كومة من النفايات، .. كلها “أمثلة” على دوافع الإغتيال إستهتاراً.
كثير من أصحاب الكفاءات يوافقون على الأدلاء بمعلومات عن بحوثهم من خلال الفضائيات، أو يتم إستدراجهم من قبل هذه الفضائية أو تلك، وهم يعرفون بأنهم سوف يدفعون حياتهم ثمنا لهذه المعلومات التي يدلون بها علناً من خلال شاشات الفضائيات .. فهل ذلك هو حالة عدمية عاشها الشهداء، بعد أن تيقنوا أنهم يعيشون في دولة فاشلة؟!
إن عالم السياسة اليوم مبني على المؤامرات التي تشرف عليها منظمات سرية ترتبط ببلدان عملاقة وخبيثة، ويتم التنفيذ من خلال منظمات وأفراد بصناعة محلية، ونتيجة لطبيعة هذه الحبكة، فسوف يستمر نزف دم الصحفيين والإعلاميين وذوي العقول النيرة، وسوف لن يتوقف نزف الدم، وسيبقى القتلة في منأى عن المساءلة والعقاب .. وليس أمام المثقفين من الإعلاميين والكتاب والصحفيين ومراسلي الفضائيات سوى التفكير في ستراتيجية مختلفة تؤمن حمايتهم، أو التقليل من إستهدافهم قتلا، ذلك من خلال اليقظة والتأني وعدم الإدلاء بخزين المعلومات وأسرار البحوث، فسوف لن تتمكن لا منظمة صحفيين بلا حدود، ولا المنظمات التي تعمل تحت خيمة الأمم المتحدة ومنظماتها الثقافية، ولا نقابات الصحافة، من عمل أي شيء يؤمن الحماية للصحفي ويحول دون إفلات القاتل من العقاب، لأن القاتل تقف وراءه، منظمات سرية وبلدان وحكومات متواطئة وغير وطنية، ومؤسسات أمنية وعسكرية يعمل القتلة في صفوفها .. ويبقى “هاملت” يردد بعد أن كشف مؤامرة قتل أبيه الملك وزواج عمه من أمه .. يبقى يردد مقولته الشهيرة بعد أن حبكوا المؤامرة ونفذوا الجريمة:
“كلمات كلمات كلمات”
Words, words, words
ويبقى دم الصحفيين والإعلاميين والحالمين بوطن، في شوارع المدن، وينشف الدم على تراب شوارعها .. ثم تغسله الأمطار!
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا