صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الاحتجاجات الإيرانية.. رؤية من الداخل

يحبس الشرق الأوسط هذه الأيام أنفاسه إثر الأحداث الأخيرة في إيران. فهذا البلد الكبير بإمكاناته وبحجمه الإقليمي وبعدد مواطنيه يعد أحد أهم اللعبين السياسيين في استقرار المنطقة وأمنها، وهو منذ أربعين عاما يشكل طرفا في أغلب الملفات المثيرة للجدل فيها. ومنذ ثورة 79 التي شهدها هذا البلد، والتي أطاحت بالشاه بهلوي، ونجم الشيعة السياسيين في صعود مستمر على الساحتين الإقليمية والدولية، حتى إذا ما تم التغيير في العراق عام 2003 واندلعت ما سمي بأحداث الربيع العربي، ولا سيما في سوريا، صار حضور إيران جزءا مألوفا في نشرات الأخبار اليومية وفِي قاعات التفاوض والمحادثات بين الأطراف جميعا!

وفِي الوقت الذي ظن الكثير من المراقبين أن مثلث (تركيا / إيران / السعودية) عصي على الاختلالات الأمنية والانقلابات والاحتجاجات الشعبية، نشهد اليوم موجة شعبية من الاحتجاجات في ايران يسبقها انقلاب في تركيا واحتجاجات شعبية وصعود سريع ومربك لمحمد بن سلمان في السعودية. وهذا يعطي تصورا عن طبيعة المنطقة وتداخلها الأمني والجيوسياسي يصعب معه التفكيك بين فضاءات هذا البلد أو ذاك بالرغم من الخصوصيات الداخلية.

وبشأن الأحداث الإيرانية الجارية تم تقديم الكثير من القراءات والتفسيرات في الفضاء الإعلامي العربي أجدها لا تستمد معلوماتها من الداخل الإيراني بقدر ما هي انعكاس لما يستعار من المجال الإعلامي الغربي، وهذا نقص استراتيجي كبير في رؤيتنا لمجريات السياسة في منطقتنا؛ لذا فإننا نسعى في هذا الملخص أن نقدم رؤية من الداخل الإيراني، رؤية نرجوا أن تكون موضوعية ودقيقة بلا مبالغات ولا محاباة لأحد.

وهذه  بعض التعليقات  التي نرى أنها جديرة بالملاحظة لدى المحللين السياسيين المهتمين بالأوضاع الجارية في إيران:

  1. يرى البعض أن الأحداث الحاصلة اليوم في إيران عبارة عن مؤامرة أمريكية / سعودية على “إيران الشيعية”؛ ويدعى هذا البعض أن كلامه هذا “فرضية” في تفسير الأحداث، على من لا يقبلها ان يبرهن على بطلانها! تعليقي هنا منهجي، وخلاصته هو أن الافتراضات إنما تكون “علمية” حين يمكن دفعها. أما تلك الافتراضات التي لا تقوم على معطيات مباشرة من الواقع، فهي مجرد تخمينات! من الصعب دحضها بأكثر من استبعادها أساسا من النقاش.
  1. العداوات بين الدول باتت مألوفة، ومسعى أمريكا لمحاصرة إيران وإذائها لا يرتاب فيه أحد، ويمكن قول الشيء نفسه مع سياسة محمد بن سلمان، ولكن الدول ليست لقمة سائغة بيد من هب ودب، وإيران لا يمكن ابتزازها بسهولة.
  1. بدل هذه الافتراضات الحماسية التي لا دليل يدعمها الأفضل أن نتحدث بمنطقية! الأوضاع حصيلة ثلاثة أمور: (حصار خانق على إيران)، و(سياسات تنفيذية لروحاني تحتاج إلى المراجعة)، و(شباب طموح ومتحمس ومندفع؛ يشاغب أحيانا بالتخريب).
  1. الأوضاع على أرض الواقع ليست كما تظهر في الإعلام. والذي يتفق عليه الداخل الإيراني أن مطالبة الناس بحقوقهم وتحسين معاشهم أمر طبيعي ومقبول، ولكن الرفض يأتي للتصعيد والتخريب والاعتداء على مؤسسات الدولة وقواتها الأمنية.
  1. بداية المظاهرات، وسمتها الغالبة حتى الآن، أنها “مطلبية” و”معاشية”، ولكن الأمور تطورت في بعض الأماكن، وعند بعض الناس، إلى شعارات سياسية تمس رأس النظام وسياسته الخارجية. وهي، إي المظاهرات، وإن حصلت على الدعم والتعاطف الجماهيري الواسع لأهدافها الأولى، فإنها اليوم بدأت تفقد الكثير من رصيدها هذا بسبب جنوح بعض المشاركين فيها للعنف والتخريب، وهو ما أحدث “لوثة أخلاقية” في سمعة هذه المظاهرات. ولمن يفهم الداخل الإيراني يعرف أن هذه اللوثة من شأنها أن تأثر تأثيراً كبيرا على مسار تطور المظاهرات ومستقبلها. واللوثة التي اتحدث عنها هنا تعني استياء الشارع العام من حماسة بعض الشبان التي تحمل نوعا من التطرّف والعدوان لا يستسيغه الجمهور الايراني.
  1. الدستور الإيراني يسمح بالمناورة بين صلاحيات طرفين: (الولي الفقيه الذي يمثل شرعية النظام؛ والراسم لسياساته العامة والمشرف على تنفيذها، والذي يتدخل عند الضرورة لحل مشكلات هذا النظام المستعصية) من جهة، و(الرئيس المنتخب الذي تقع على عاتقه مسؤولية تنفيذ البرامج) من جهة أخرى. هذا التوزيع للصلاحيات يمنح النظام قدرا من المرونة في الدفاع عن نفسه أمام منتقديه؛ ويلقي مسؤولية مشاكل البلد على كاهل رئيس الجمهورية.
  1. لا أحد ينكر أن هناك أطرافا تريد ركوب الموجة، ولكني لا أفسر الأحداث الجارية بتدخلات خارجية، لأن انتشارها وعشوائيتها يحول دون افتراض وقوفِ طرفٍ ناظمٍ لها من الخارج.
  1. إيران جزء من الفضاء الجيوسياسي الاقتصادي الاجتماعي للمنطقة، تُأثّر وتتأثر بما يجري حولها. وقد شهدنا أحداثا كثيرة في جميع بلدان منطقتنا، أعنفها ما حصل في دول الربيع العربي، ثم العراق، ثم تركيا، والآن جاء الدور لإيران.  قد يكون موضعة الدولة الإيرانية في هذا السياق محل تحفظ لدى البعض، ولكن من الممكن التعاطي مع هذا الرأي كمدخل مقترح، وبنحو مؤقت، لفهم مجريات الأحداث بنحو أوضح، ومع ذلك تبقى القضية الأساسية للمظاهرات تتعلق بأمور مطلبية تخص الاقتصاد والمرتبات وأسعار الحاجات الأساسية للمواطن. قد يزيد المتظاهرون الشبان أمورا أخرى تتعلق بالحريات العامة وبالسياسات الخارجية، ولكنهم يفعلون ذلك بفعل أمرين متوقعين: إما لربطهم القضايا من الصنف الأول بهذه القضايا الأخيرة فيعتبرونها استنزافا لموارد إيران الاقتصادية، وإما لأن مطامح التحديث ترفع من سقف توقعاتهم إلى مزيد من فصل الدين عن المجال الاجتماعي العام. بخصوص دوافع التحديث فإن الدولة الإيرانية تتجه يوما بعد آخر، وإن بهدوء، نحو مزيد من الحريات. أما بخصوص السياسات الخارجية، فيمكن لإيران بعد مرحلة داعش أن تعيد النظر في سياستها هذه.
  1. التحدي الأكبر الآن هو التصرف بحصافة وعدم التصعيد في المواجهة واستخدام العنف؛ لأن التصعيد يفضي إلى التصعيد، والعنف يولد العنف. اما المطالَب الاقتصادية، فهذا صار ديدن العالم في الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات، وعلى رئيس الحكومة ان يحضّر نفسه للإجابة على أسئلة الناس.
  1. الخطاب الديني عند عدد مهم من رجال الدين كان متفهما لمطالب المتظاهرين المعاشية. ومنهم من كان يقول: الاعتراض حق من حقوق الناس، التظاهر حق من حقوق الموطنين. وهذا منطق عقلاني بكل تاكيد يساعد على احتواء الازمة.
  1. ليس من النافع استخدام عبارات وصفية غير محددة كميا في التعبير عن أمر هو في الأساس كمي (حجم المظاهرات). فمثلا تعداد ايران يربو على الثمانين مليوناً، حين يقال إن المظاهرات فيها “كبيرة جدا” فإن البعض يظن أن الناس هناك يخرجون إلى الشوارع بمئات الآلاف! أو حتى بعشرات الآلاف! ومع أن هذه الأرقام غير صحيحة بالنسبة للمراقب المتواجد على الأرض، فإن نفس هذا الوصف غير سليم منهجيا لأنه يتحدث عن نِسَب عديدة للمتظاهرين لا يمكن ضبطها. والحقيقة أن الأعداد لا تتجاوز، في أفضل الأحوال وأكثرها مشاركة، الخمسة آلآف.
  1. الأهم من تحديد أعداد المتظاهرين (وهو أمر يبقى قابلا للتشكيك والطعن) التركيز على انتشار هذه المظاهرات وشمولها مدنا بعيدة، فإن المظاهرات لم تقتصر على المركز (طهران) وإنما تعدته إلى الأطراف.
  1. ما يفترض بالمعنيين بهذه المظاهرات هو الاهتمام بدلالات الحدث وانعكاساته على المدى القريب والبعيد فيما يخص إيران والمنطقة، ولاسيما فيما يتعلق بالإسلام السياسي وصعود الشيعة على المشهد السياسي في الساحتين الإقليمية والدولية.
  1. الحديث عن تدخل خارجي عسكري أو شبه عسكري في إيران لصالح المتظاهرين هو مضيعة للوقت! ولا ينبغي الاعتناء به.
  1. هذه المظاهرات لن تفعل الكثير للنظام الحاكم في إيران، أي أنها لا تشكل تهديدا جديا ووشيكا له الآن، ولكنها ستحقق نتيجة عاجلة، وتقطف ثمرة آجلة:

الأولى: استصدار بعض القرارات الاقتصادية المهمة كخفض الأسعار ودعم بعض السلع وتحسين شروط الضمان الصحي … إلخ.

والثانية: منح جرعة من الجرأة للناس للخروج وإبداء الرأي في قضايا وشؤون البلد الداخلية والخارجية على حد سواء.

  1. الإصلاحات الاقتصادية التي تعد بها الحكومة لن تفضي إلى إنعاش اقتصادي بكل تاكيد، ولكنها ستمتص النقمة الشعبية، وهذا في رأيي أفضل ما تحلم به حكومة روحاني الان.
  1. بخصوص نتائج المظاهرات على السياسات الخارجية الإيرانية فيما يخص العراق (هل سيمنح هذا الوضع العراقَ استقلالا أكثر أو أنه سيدفع الإيرانيين إلى تبني خيارات أكثر راديكالية من سياساتهم السابقة؟) فكما نعلم هذا سؤال ليس من السهل التكهن بأجوبته!! لأن السياسة في أحيان كثيرة عبارة عن “كواليس”! ولا ندري ما يدار في الخفاء ومن هم اللاعبون (هل هم الإيرانيون فحسب أم غيرهم أيضا من الأمريكان والسعوديين وغيرهم ؟!). في تقديري أن ما هو مهم الآن إيرانيا هو الداخل الإيراني (التهدئة وامتصاص الغضب الشعبي، سواء ما كان منه على الحكومة أو ما تجاوز حدود ذلك من المعترضين على أصل النظام) … كيف سيترجم الإيرانيون ذلك في علاقتهم مع العراق؟ أحسب أن مرحلة ما بعد داعش قد تدعو الإيرانيين إلى السماح لحلفائهم وأصدقائهم بحرية أكبر بانتخاب أو بلورة قراراتهم التي تمليها عليهم أوضاعهم الخاصة. وإذا كانت أجواء داعش قد وفرت مناخات ظهور قاسم سليماني، فإن مرحلة ما بعد دعش، وما بعد المظاهرات، قد تفسح المجال للإيراني أن يلتقط أنفاسه باستنشاق هواء (ملي) داخلي. ولكن ليس متوقعا ان تعتمد ايران سياسة النأي بالنفس بأن لا يكون لها حضورها عبر أصدقائها وحلفائها؛ نعم للحليف وقته! ومنه ما يكون تخفيفا من ضغوط الداخل واستحقاقاته. أما عراقيا، فالجميع يعلم بأن سياسة السيد العبادي هي الأكثر استقلالا من اي نفوذ إيراني.
  1. الدولة الايرانية والمتظاهرون في الشارع لا يهمهما الان شيء اكثر من الاقتصاد. لذا أجد أن السؤال الأهم يجب ان يكون قبل كل شيء، وفوق كل شيء، اقتصاديا. وهنا فقط، وفِي هذا السياق تحديدا، يجب فهم سياسات ترامب وخططه.
  1. المظاهرات ليست مرحلة عابرة! ومع ذلك فإن السيكولوجيا الايرانية اعقد من أن يغيرها أسبوع أو أسبوعان من الأحداث!! في الواقع نتائج هذه المظاهرات، وقد قلت ذلك سابقا، ستكون آجلة وليست عاجلة. هذه المظاهرات بعثت الروح في خيار كان مجمدا منذ عقود عند الإيرانيين! وهو خيار الشارع والتظاهر! وهذا التسالم الحاصل اليوم حول “حق الاعتراض والتظاهر” سيجلب معه الكثير مستقبلا! ففي بلد منفتح على ثورة المعلومات والاتصالات، ولديه مستوى جيد من التعليم، سيكون هذا الحق مصدر قلق دائم للحكومة، أي حكومة.

باحث وكاتب عراقي

أقرأ أيضا