أيام قليلة، وتتوجه الكتلة الناخبة في عموم العراق إلى صناديق الاقتراع في انتخابات تشريعية هي الأولى بعد الهزيمة العسكرية التي ألحقها العراق بالتنظيم التكفيري المسلح “داعش” وتحرير جميع المدن من سيطرته.
مما تميزت به هذه الدورة الانتخابية عن سابقاتها هو أنها ستجري في ظروف اجتماعية وسياسية أشد صعوبة: فعملية إعادة الإعمار للمدن المدمرة بشكل واسع لم تبدأ بعد بشكل حقيقي وملموس ومئات الآلاف من النازحين لم تتم إعادتهم بعد إلى مدنهم وقراهم. كما أنها ستجرى وفق صيغة معدلة للمرة الثانية لقانون “سانت ليغو” لاحتساب الأصوات والمقاعد النيابية. وهي طريقة لن يسمح سقفُها المرتفعُ بصعود القوائم والأحزاب الصغير وحتى المتوسطة القوة إلى مجلس النواب القادم. وأخيرا، فالتوقعات وعمليات سبر الآراء التي سبقت الانتخابات حتى الآن ترجح نسبة مشاركة ضئيلة لعدة أسباب من أهمها: حالة الإحباط واليأس الشامل من أداء وفضائح نظام المحاصصة الطائفية الذي جاء به الاحتلال الأميركي سنة 2003، واستشراء الفساد السياسي والإداري والمالي، ونقص وسوء الخدمات العامة، وتصاعد احتمالات التزوير بعد قرار اعتماد طريقة فرز الأصوات إلكترونيا، ونشاط حملة مقاطعة شبه منظمة ومؤثرة نسبيا للمشاركة للانتخابات. صحيح أن بعض التوقعات التي أدلى بها زعماء قوى سياسية كبيرة – كائتلاف “القرار العراقي” على لسان أحمد المشهداني – رجحوا ألا تتجاوز نسبة المشاركة 30% وخصوصاً بعد إعلان المفوضية العليا للانتخابات، والمُشَكَّلة على أساس المحاصصة الطائفية والقومية، أنها أعدمت أكثر من ستة ملايين بطاقة انتخابية لم يستلمها أصحابها وفق بعض المصادر، أو أنها مستعادة بعد استبدالها ببطاقات إلكترونية حديثة. ولكن هناك من يرى أن النسبة ربما تفوق الـ 40% بعد التحشيد الانتخابي واسع النطاق الذي تشهده مناطق الجنوب والوسط حيث الحاضنة الاجتماعية والطائفية الأوسع للأحزاب الإسلامية الشيعية المهيمنة على الحكم.
مهما يكن من أمر، فإن نسبة ضئيلة، وبهذه الحدود، أو بما دونها، لا يوجب الدستور إلغاء الانتخابات بسببها، لعدم وجود مادة دستورية تقضي بذلك. ولكن المقاطعين يقولون إنهم يريدون إلحاق هزيمة معنوية بالنظام وانتخاباته وإفقاده الشرعية الشعبية كبداية لحراك شعبي جديد يستهدف التغيير الحقيقي.
إن أية قراءات دقيقة ومحايدة للمشهد السياسي العراقي خلال السنوات الأربع الماضية، مصحوبة باستذكار ممارسات وخطابات الكتل والأحزاب السياسية المساهمة في العملية السياسية ونظام المحاصصة الطائفية والعرقية ستقود بالضرورة الى أن خريطة توزيع القوى والاصطفافات السياسية لن تخرج عن إطار التنافس بين خطين رئيسين أصبحا أكثر وضوحا وهما : الأحزاب والشخصيات الصديقة للولايات المتحدة الأميركية والمدعومة من قبلها بقوة ويأتي في مقدمة هذه القوى قائمة “النصر” بزعامة العبادي و”القرار العراقي” بقيادة النجيفي وقائمة الحزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة البارزاني وقد يلتحق بهم قائمة ” الوطنية” بزعامة إياد علاوي. وفي مقابل هذه القوائم الانتخابية، وأخرى قد تلتحق بها فيما بعد، يقف تحالف “الفتح” الذي شكلته عدة فصائل إسلامية شيعة تربطها بإيران علاقات أيديولوجية وسياسية ودينية قديمة، ويمتد بعض تلك العلاقات الى ما قبل احتلال العراق، ومعها شخصيات سياسية تقليدية ووزراء ومسؤولين حكوميين سابقين. وبين هذين القطبين الرئيسين تتناثر قوى صغيرة ومتوسطة لعل أكثرها أهمية ووزناً هي قائمة “سائرون” الممثلة لتحالف انتخابي جَمَعَ بين حزب مدعوم من التيار الصدري وشيوعيين ومدنيين وشخصيات من التكنوقراط المستقلين نسبيا عن الدولتين الأكثر تأثيرا في الوضع العراقي.
على صعيد التوقعات واستشراف النتائج، ورغم ميوعة وضبابية المشهد السياسي والانتخابي العراقي، وفي ضوء انعدام وجود البرامج الانتخابية الحقيقية والمفصلة يمكن أن نستشرف نتائج الانتخابات كالآتي:
*على صعيد القيادات، من المرجح أن يكون الخاسرون الكبار هم من الوجوه القديمة كالمالكي، البارزاني، الطالباني، الحكيم، علاوي والنجيفي وقد يكون وضع الأخير غامضاً أو متأرجحاً. إن سبب خسارة هؤلاء هو أن الانتخابات ستتخذ في عموم العراق، وفي الإقليم خصوصا، طابع “التصويت العقابي” بعد كارثة صعود داعش وتداعياتها المأساوية وتجربة استفتاء البارزاني. وقد تخسر هذه الأطراف كقوائم وكزعماء نصف ما حصلت عليه في الانتخابات السابقة وربما ما دون ذلك. ويمكن لنا أن نتوقع أن تحدَّ الماكنة الحزبية والمال السياسي والتزوير العميق والتحشيد الطائفي من هذه الخسائر المتوقعة إلى درجة ما، ولكنها لن تعكس الاتجاه نحو الحفاظ على المكتسبات السابقة أو الحصول على المزيد منها.
-ستتحول خسائر “الخاسرين الكبار” أعلاه إلى أرباح ومكاسب انتخابية للقوائم الجديدة وخصوصا: النصر، الفتح، سائرون. وفي الإقليم: التغيير، الجيل الجديد، الإسلاميون الكرد، وليس هناك معلومات واضحة ورصينة عن وضع القوائم الجديدة للعرب السنة في المنطقة الغربية ومحافظات صلاح الدين ونينوى وديالى فالوضع هلامي وغامض تماما، وهناك توقعات بأن المشاركة ستكون في أدنى نسبة لها في هذه المناطق.
-ستكون نسبة المشاركة منخفضة في عموم العراق ولكنها قد تتجاوز خط الأربعين بالمائة بصعوبة وقد ترتفع أكثر بفعل التزوير والتدخل الخارجي غير المشروع.
-هذه التوقعات تفترض افتراضا شبه مستحيل يقول بنسبة تزوير منخفضة وعدم حدوث مفاجآت سياسية وأمنية من الوزن الثقيل خلال فترة الدعاية الانتخابية حتى بدء ساعات “الصمت الانتخابي” وعدم التلاعب بالمنظومة الرقمية الانتخابية وخصوصا بوجود اللجنة السداسية الأميركية في بغداد.
-اتجاهات التصويت والفعالية الانتخابية: ستكون الاتجاهات الانتخابية محكومة بالثبات النسبي، أي أنها ستكون طائفية وفئوية وقومية وإلى درجة أقل حزبية، كما كانت في الدورات السابقة. حيث سيصوت جمهور كل طائفة لأحزاب الطائفة وقوائمها، وربما ستكون تلك الاتجاهات في التصويت ذات تركيز طائفي أكبر نظرا لانعدام القوائم الكبيرة العابرة للطائفية وتفكك قوائم الطائفة الواحدة بهدف جمع أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية لكل طائفة على حدة.
-وربما تحدث اختراقات معينة خصوصا لمصلحة قائمة “سائرون” ولقائمة “النصر” التي ستحصل على فائض أصوات غير متوقع من المناطق الغربية وصلاح الدين ونينوى إذا صدقت بعض الإحصائيات الغربية التي تتحدث عن نسبة تأييد تصل الى 51% للعبادي. وقد تكون هذه الإحصائيات مجرد تسويق أميركي لقائمة العبادي ليس إلا. وقد تحصل قائمة “نصر” على مكاسب معينة حتى في مناطق الإقليم حيث نزلت القائمة بقوة في مدن كردية مهمة، وإذا صح هذا التوقع فمرده إلى سببين: الأول، هو الإغراء المتمثل بكون رئيس قائمة ” النصر” هو رئيس الوزراء الحالي، وما يشكله ذلك من حافز أو إغراء قاعدي مهم للكتلة الناخبة المعنية أو أجزاء واسعة منها داخل وخارج الطائفة الأكبر. والثاني هو نزول قائمة انتخابية مهمة للفصائل التي تحسب نفسها على مشروع أو إنجازات “الحشد الشعبي” تسعى للوصول الى مركز القرار والحكم وهذا ما يثير ذعر الجمهور الانتخابي النمطي في نينوى وصلاح الدين والأنبار ومحافظات الإقليم.
أن التأثيرات الخارجية المحتملة، والتي رُصِدَت إشارات قوية عليها، تكاد تنحصر في دولتين، هما الولايات المتحدة وإيران، إضافة إلى عمليات دعم مالي وسياسي من دول أخرى كالسعودية والإمارات وقطر للقوائم العربية السنية. وقد تأكد بالملموس أن هناك حالة من التوافق غير المعلن عنه بين واشنطن وطهران على ضرورة الإبقاء على النظام السياسي العراقي القائم. هذا التوافق الذي يمكن تلخيصه بعبارة “لقاء المصالح بين الخصمين” تجسد واضحا خلال الاعتصام البرلماني الواسع الذي حدث في نيسان سنة 2016، والذي استهدف التوزيع الطائفي للرئاسات العراقية الثلاث حيث تدخل السفيران الأميركي والإيراني وبقوة وكل بطريقته الخاصة بهدف إفشال وإنهاء الاعتصام وهو ما حدث فعلا.
من اللافت، أيضا، أن يسود صمت من جميع الأطراف على وجود لجنة خبراء أميركية مقرها في بغداد، قيل انها ستشرف على الانتخابات، ويبدو أن هذا الصمت حتى من قبل الأميركيين، الذين اكتفوا قبل شهرين تقريبا بالإعلان عن وجود هذه اللجنة ثم سكتوا، يبدو ان هذا الصمت محسوب سياسيا وإعلاميا حتى لا يتحول الموضوع الى قضية رأي عام لها تأثير سيء وهي كذلك فعلا حتى مع هذا الصمت.
قلنا إن الغموض يلف وضع القوائم العربية السنية، وذلك بسبب التشظي والتفتت والتنقلات الكثيرة والمفاجئة وغياب القيادات ذات الكارزما والبرنامج الوطني الجذري وتكرار ترشيح الوجوه القديمة الفاسدة. صحيح ان هذه المظاهر والعلل موجودة في جميع القوائم الأخرى ولكنها هنا تكتسب وجودا أكثر وضوحا وقوة.
إن المشاركة في هذه الانتخابات أو في أي انتخابات لا معنى لها ولا جدوى منها طالما استمر هذا النظام قائما وعملية الانتخابية جارية على نفس الأسس والركائز والمفوضية الانتخابية مشكلة على أساس المحاصصة الطائفية، وطالما استمر غياب أية قائمة انتخابية تعلن برنامجا ديموقراطيا استقلاليا حقيقيا يدعو ويعمل على إقامة نظام المواطنة والمساواة وتحرير العراق من الهيمنة الأجنبية بشكل كامل.
*كاتب عراقي