صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الانقسامات الطائفية حول المدونة التاريخية الاسلامية العربية (1)

جعلت أوروبا في عصرها الحديث (النقد الخارجي)، وهو النقد الذي يتناول الوسيط أو الناقل للمادة التاريخية، منهجا اساسيا في قبول وعدم قبول الواقعة التاريخية، وذلك قبل أن يتم نقد المادة نفسها. والنقد الخارجي يتركز بالأساس في موضوعات التاريخ ووثائقه في المدونات التاريخية. وهناك ما يشابه هذا النقد الخارجي في منطقتنا الاسلامية العربية، ويسمى بـ(الجرح والتعديل) وقد سبقت المنهجية العربية بعمرها، المنهجية الاوروبية بقرون عديدة.

الجرح والتعديل منهجية قديمة في منطقتنا، لكنها بقيت منهجية انتقائية ليس لها ضوابط موحدة تشمل جميع المذاهب الإسلامية، وهي كذلك لم تتوسع في التاريخ مثلما توسعت في الحديث المنقسم مذهبيا. لكن علينا أيضا أن نقول؛ بأن (المدرسة العراقية التاريخية والتي بدأت في العقدين الأخيرين من القرن الأول الهجري) وهي أول من سعت لوضع منهجية النقد الخارجي لسلسة أسانيد الواقعة التاريخية، وهي كذلك أول من اهتمت بالحوليات والانتقال من التدوين الانتقائي المناطقي المحدود إلى التدوين الشامل والمنظم. وقد أعطت هذه المدرسة العراقية للسند أهمية كبرى في قبول الواقعة التاريخية أو رفضها، وذلك قبل أن يتم وأدها -فيما بعد- على يد السرديات الطائفية. وقد كان من أبرز رجال هذه الحقبة التأسيسية الأولى طلحة بن الاعلم ومحمد بن عبدالله، ورمز هذه المدرسة المتأخر وعملاقها هو شيخ المؤرخين -الشموليين- ابو جعفر الطبري، وقد سبقت هذه المدرسة الشمولية، المدرسة التخصصية/الموضوعية والتي كان من أبرز أعمدتها أبو مخنف يحيى بن لوط (القرن الثاني الهجري) والمدائني علي بن محمد بن عبدالله (القرن الثالث الهجري) لكن يبقى المحزن، بأن هذا الاتجاه لم يتبلور ويتكرس في الثقافة العربية الاسلامية بسبب ارتفاع منسوب الطائفية التي كانت عنوانا للحقبة المتوكلية/القرن الثالث الهجري وما بعدها، ووصولا للحقبة المقتدرية. ففي هذه الحقب أُهمل -مثلا- أبو مخنف بسبب توثيقاته الرصينة لواقعة الجمل وصفين والنهروان والطف.. وهي التوثيقات التي لم تكن تنسجم مع توجهات الدولة المتوكلية-المقتدرية والرؤية العقدية الحنبلية التي سادت شعبيا داخل بغداد خصوصا.

لقد أرعبت الحنبلية العقدية وأسقطت كل من لا يذعن لتوجهاتها الرؤيوية، وقد كان الطبري أحد ضحايها بسبب كتاباته حول فضائل علي بن ابي طالب، وقد وقع تحت تشنيع المجموعة الحنبلية التي جايلها حتى مات محاصرا منها في بيته ببغداد سنة 310 هجرية بتهمة التشيع، وهذا التعسف لم يكن له مكان في الدولة المأمونية اتجاه المدونات التاريخية. ومن الفارقات المضحكة المبكية فيما بعد، وبعد تكرس الطائفية بشكل عمودي أواخر الدولة العباسية أصبح الطبري منبوذا أيضا من الشيعة؛ لان حقبة الانقسام تلك لم تعد تقبل الا بمن يطمئن لترجيحه مجموعة على مجموعة أخرى ولهذا أُنسب الطبري إلى السنة لأنه لم يرق للشيعة، مع أنه من أهم من كتب بفضائل علي بن أبي طالب، وكذلك رمي أبو مخنف بالتشيع لأنه لم يعجب السنة بكتاباته حول الجمل وصفين والنهروان والطف مع أنه كان إيجابيا من الخليفتين أبو بكر وعمر.

إن هذه الرؤية الموجزة -والتي اتعمد بايجازها لتقرأ من أكبر عدد ممكن- تكشف أن التدهور الذي حصل وكرس الانقسام والتلاعب في فهم المدونة التاريخية، وقبولها أو عدم قبولها، لم ينشأ من فقدان المدونة التاريخية -بمجملها- للصدقية، بل أن القبول وعدم القبول نشأ من تدمير منهجية النقد الخارجي -الجرح والتعديل- في المدونة التاريخية، وتحويل هذه المدونة التاريخية -بقبولها ورفضها- لمنهج الميل الطائفي البسيط والساذج في أدواته المعرفية، سواء على مستوى المؤرخ نفسه أو على مستوى أسانيده.

ومن خلال هذه الرؤية التي أقدمها يمكن لنا أن نفهم هذا الهوس الطائفي اليوم عند الطائفيين شيعة وسنة، فهذا الهوس هو نتاج المقولات التي دُلست فيما بعد، وجعلت المدونة التاريخية تفقد الرصانة المنهجية، وهي الرصانة التي تتخذ من صحة الاسانيد وضبطها مدخلا لقبول الواقعة التاريخية أو عدم قبولها. إن ما يجري اليوم من تصعيد طائفي وكذب متبادل وتدليس هو ليس نتاج المدونة التاريخية الرصينة التي أقامتها مدرسة العراق التاريخية، بل هو نتاج المدونة المفتعلة على أسس طائفية فيما بعد.

أقرأ أيضا