غالبا ما تزدهر المحاكمات بعد الانقلابات السياسية والعسكرية والثورات والانتفاضات وحتى التظاهرات والعصيان المدني أو العسكري, وهي مسألة طبيعية وليست بالجديدة, فهي تمتد بجذورها إلى عمق التاريخ رغم اختلاف الصيغة الشكلية للتقاضي وإجراءات المحاكمة فالمنتصر يحاكم المنكسر والغريم يحاكم غريمه إن وقع في قبضته وهكذا دَوَالَيكَ.
فمن المحاكمات ما تكون صورية والحكم فيها قد أعد مسبقا دون ترك المجال للمتهم بأن يثبت براءته من التهم المنسوبة اليه كما حدث في محاكمة الزعيم عبد الكريم قاسم وإعدامه بعد دقائق من اقتياده إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون أو قد تتخذ وقتا أطول وتستوفي الشروط الشكلية في انعقادها كما حدث في محاكمة الرئيس الأسبق صدام حسين ومجموعة من رجاله.
ولو تابعنا كل المحاكمات لوجدنا أن هناك متهما حيا يتمتع بكامل قواه العقلية وله القدرة على الرد على الأسئلة الموجهة إليه من القضاة والادعاء العام ومحامي الخصم والاستماع للشهادة والدفاع عن نفسه حتى وإن كان مريضا و لا يقوى على الجلوس كما حصل في محاكمة الرئيس المصري حسني مبارك, أما إذا كان المتهم غائبا أو هاربا عن وجه العدالة فسيصدر الحكم غيابيا وينشر بالجريدة الرسمية أو في وسائل الأعلام ليعطى المتهم وقتا لكي يهيئ دفاعا له وهذا جزء من الإجراءات الشكلية للترافع التي تنص عليها قوانين المرافعات في كل دول العالم, وحتى الدول التي تعمل بأحكام الشريعة الإسلامية فهي الأخرى تتبع نفس الخطوات التي تتعلق بوجود المتهم على قيد الحياة, وإن مات المتهم قبل رفع الدعوى أو أثناء فترة المحاكمة فأن التهمة الجنائية ستسقط عنه تلقائيا , أما المدنية فقد تبقى إن كان في ذمته دين وكانت له تركة تكفي لسداد دينه وفقا للقانون.
ما يثير الاستغراب والدهشة في بلد التراجيديا الكوميدية أن هناك من يحاكم شخصا على فعلة كان قد فعلها في زمن ولى ومضى عليها ثلاثة عشر قرنا ونيف؟! والأنكى من ذلك أن من يقوم بإجراءات تلك المحاكمة هم قضاة وحقوقيون ينبغي أن يكونوا مهنيين لا سيما وأنهم قد درسوا القانون وتعاملوا معه وعايشوا مئات القضايا وأنهم يعلمون جيدا بأن القانون إنما وضع ليطبق وأنه لا سلطة فوق سلطة القانون و لا يحق لأي كان أقامة دعوى كيفما اتفق ولا يحق للقضاء عقد محكمة دون أن يسبقها إجراءات التحقيق ولا يحق للقاضي تقدير الحكم إن كان مذكورا بنص قانوني, فكيف تعقد محكمة يقودها قضاة وإدعاء عام ويقف فيها شهود ليشهدوا على واقعة قتل أكل عليها الدهر وشرب وسبقت وقتهم بثلاثة عشر قرنا من الزمن وأن المتهم فيها لم يمت فحسب بل تحولت عظامه وعظام خلف خلفه إلى تراب؟! أليس عيبا و تقصيرا قانونيا أن تقام دعوى تفتقر الى أبسط شروط الترافع والتقاضي و يحضرها قضاة ومحامون وإدعاء عام وشهود وتنقل عبر وسائل الاعلام ؟ ألم يعلموا أن أبسط قواعد التقاضي تقول أن الدعوى الجنائية تسقط بوفاة المتهم وأنه لا يمكن محاكمة من تربطه علاقة قربى بالمتهم ما لم يكن شريكا فيها أو له يد فيها طبقا لمبدأ (شخصية العقوبة) ووفقا للقاعدة الشرعية المستندة للقران الكريم (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟
قد يستغرب من يقرأ هذا المقال وقد يعتقد بأنه مزحة أو كذبة نيسان قد سبقت أوانها أو أن كاتب المقال كان مخمورا حين كتب مقاله هذا؟! لا يا سادتي الكرام, المحاكمة حدثت بالفعل وفي مدينة النجف بمحكمة شكلتها نقابة المحامين هناك لمحاكمة قاتل الأمام زيد بن علي الذي قتل خلال ثورته على الحكم الأموي قبل ثلاثة عشر قرنا من تاريخنا الحالي ؟! وصورتها وعرضتها في وسائل الإعلام وتداولها الآلاف خلال اليومين الماضيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها؟!
يقال والعهدة على القائل بأن هذه المحاكمة قد كلفت الدولة أكثر من خمسين مليون دينار عراقي!! ولو صح هذا الخبر لكان الأولى بمن خرج علينا بهذه الفذلكة أن يصرف تلك الأموال على ترميم مدرسة أو استيراد أدوية لعلاج مرضى الأمراض المزمنة أو بناء جسر صغير في منطقة ريفية وغيرها مما قد يعود بالنفع على أهل البلد البؤساء.
لقد تجاوز العراقيون حاجز الزمن بالعودة إلى الوراء في الوقت الذي تجاوزت فيه شعوب المنطقة حاجز الصوت بالتقدم نحو الأمام وسبقتنا بمئات السنوات الضوئية بعد أن كانت شعوبا متخلفة تعيش في الصحارى القاحلة على الغزوات والسلب والنهب!
أما كان الأجدر أن يحاكم من عاث في البلد فسادا ودمر كل بناه التحتية وأحرق الحرث والنسل وجفف مياهه وقطع نخيله وما زال حيا يعتاش كطفيلي قذر على أموال الشعب المسكين وينشرها فوق أجساد العاهرات في ملاهي بيروت وعمان ويتبجح علنا في التلفاز بأنه سرق وأختلس وارتشى و يعترف صراحة بأن كل السياسيين من المعمم إلى الأفندي إلى مرتدي الكوفية والعقال هم سراق ومرتشون ولديهم ميليشيات ومكاتب للاستحواذ على العقود ومصارف وشركات لتحويل الأموال وتهريبها ؟ أو ليس الأهم ملاحقة من تسبب في موت مئات الآلاف و تهجير عشرات الآلاف من أبنائه الذين كانوا يعيشون حياة حرة كريمة وحولهم إلى متسولين يستجدون الخبز عند أبواب الجوامع والحسينيات ويفترشون الشوارع دون ملبس أو مأوى؟ أو محاكمة ذلك الذي اغتال العقول وشرد من نجا منها و خلف جيوشا من العاطلين الجهلة وحول الوزارات ومؤسسات الدولة إلى إقطاعيات؟
هل سنترك واقعنا المرير المؤلم لنؤسس محاكم تفتيش لنحاكم الدولة العباسية والبويهية والسلجوقية وخلفاء بني عثمان ومن حكم العراق قبل آلاف السنين؟ إلى متى ستستمر تلك المهازل و إلى متى سنبقى نجتر ماضينا وأحداثه التي أصبحت حبر على ورق في كتب التاريخ؟ حقيقة الأمر أننا نعيش في زمن المضحك المبكي وأن تراجيديتنا أصبحت كوميديا يتندر بها العالم!