صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

التطبيع مع الحزن في الشخصية العراقية

“الله يكفينا شرّ هالضحكة”، جملة مألوفة في المجتمع العراقي، تتردد تلقائياً بعد كل لحظة فرح، وكأننا نخاف من الفرح بقدر ما نشتاق إليه.

هذه العبارة تحمل في طيّاتها موروثاً شعورياً عميقاً تكوّن عبر التاريخ، وشكّل جانباً خفياً من تكوين الشخصية العراقية.

فما الذي جعل الحزن بهذه المركزية في الوعي العراقي؟ 

وكيف طبّع المجتمع معه حتى بات جزءاً من الهوية الشعورية للعراقي؟  

الجذور الحضارية

عند العودة إلى حضارات وادي الرافدين نجد أن الحزن سمةٌبنيوية في ثقافة الرافدينيين ونظرتهم للعالم، تخللتها الأساطير السومرية والبابلية والآشورية إذ كانت مشبعة بألم الفقد وصراع الإنسان مع القوى الغيبية.

في “ملحمة جلجامش” أقدم ملحمة مدونة في التاريخ لا ينطلق البطل للغزو أو المجد بقدر الهروب من الموت بعد أن صُدم بوفاة صديقه أنكيدو، تلك الرحلة الكبرى التي تسكن وجدان الرافدينية حتى اليوم لم تبدأ إلا بالحزن، وظلت تدور حول الخوف من الفناء والبحث عن معنى.

في “أسطورة نزول عشتار إلى العالم السفلي” تتوقف الحياة على الأرض حين تغيب الإلهة إذ يَعمّ الجفاف والجوع والموت في البلاد، ولا تعود الحياة إلا بعد المرور بطقوس مؤلمة في مملكة الظلام أو العالم السفلي.

أما في مراثي أور ورثاء نينوى فقد كتب الكهنة نصوصاً طقسية حزينة ترثي المدن التي دمّرها الغزاة والكوارث، ويصرخون للآلهة بكلمات مثل:  

“لماذا تركتمونا؟ أين كنتم حين سقطنا؟”  هنا يُصوّر الألم كجزء من دورة الحياة التي لا مفر منها. 

وعلى أرض الواقع لم تكن تلك الأساطير الخيالية بمعزل عن التجارب المريرة والمتكررة التي تعرّضت لها حضارات بلاد الرافدين من كوارث طبيعية ضخمة، مثل الطوفانات التي ذكرتها ملحمة جلجامش وأزمات الجفاف والمجاعة المتكررة التي دمّرت المحاصيل، وأجبرت الشعوب على الهجرة.  

هذه الكوارث الطبيعية إلى جانب الحروب المستمرة، خلقت تصوراً تشاؤمياً عن العالم، وأسست لحالة شعورية ترى الألم مكوّناً أساسياً في الحياة. 

من تمّوز إلى الطف: الحزن في الطقوس الدينية  

الحزن في حضارات وادي الرافدين تعدى الشعور الداخلي للفرد وتحول سلوكاً تُمارسه الجماعة في أوقات الكوارث والموت والندم .

فقد آمن الإنسان الرافديني أن الآلهة تغضب، وأنها قد تُنزل القحط أو الطوفان أو الدمار حين تُنتهك القوانين الكونية. 

وفي مواجهة ذلك لم يكن هناك طريق للتكفير سوى الطقوس الجماعية التي كان الحزن فيها هو اللغة الأعلى صوتاً.

فنجد “أناشيد الندم” و”صلوات التوبة” حاضرة يقودها الكهنة والملوك الذين كانوا يتلون كلمات الندم والانكسار أمام الآلهة بروحٍخاشعة وموجعة لطلب الصفح والرحمة.

أما الطقوس الجنائزية فكانت مشبعة بالنواح الذي يُؤدّى جماعياً وتُرافقه حركات رمزية مثل ضرب الوجوه، ونثر التراب على الرأس، وتمزيق الثياب، في مشهد يبدو لنا إلى اليوم مألوفاً.

وتبلغ الرمزية ذروتها في مراثي المدن الكبرى، مثل “مرثية أور”، إذيُرثى المكان كما يُرثى الإنسان، وتبكي الجدران كما تبكي الأمهات أبناءهن. كانت هذه الطقوس تُنشد بعد اجتياح أو خراب وتُؤدى في المعابد بحضور كهنة وجماعات من العامة، وكأن المدينة كلها تنخرط في فعل حدادٍ كونيّ.

وفي طقس آخر لا يقل عمقاً كانت النساء في الصيف يندبن الإله الراحل “تمّوز (دُموزي)”، الذي يموت كل عام، فتجف الأرض وتذبل الزروع ولا يعود إلا بعد بكاءٍ وطقوسٍ حُزن تُعيد له الحياة. 

هذه الطقوس تُعد من “أقدم أشكال البكاء الجماعي الطقسي في التاريخ”، وتحمل دلالة كبرى: “أن الحياة لا تستمر دون المرور عبر بوابة الحزن”. 

لذا نجد أن الحزن في الموروث لا يُمارَس من أجل التنفيس العاطفي فقط، بل لإرضاء الآلهة، واستعادة التوازن الكوني، وربط المجتمع بجسدٍ واحد ينبض بالخوف والتوبة والرجاء.

مع دخول الإسلام، وخصوصاً بعد الأحداث الدموية التي جرت على أرض العراق ولا سيّما بعد مقتل الإمام الحسين واصحابه في عاشوراء والتي تحوّلت إلى محور شعوري متكرر في الذاكرة العراقية لاستلهام العِبر بطقوس دينية وتربوية تغلبُ عليها مظاهر الحزن بأشكالٍ مختلفة تُنقل من جيل إلى آخر، لم يعد الحزن شعوراً داخلياً فحسب بل فعلاً يُمارَس، وسلوكاً يُكافأ، وانتماءً يُقاس بعمق الحزن وصدق الدمع.  

في هذا السياق، أُعيد تعريف الحزن على أنه “وفاء”، والفرح على أنه “خيانة للمظلومية”.

كما رسّخت الثقافة الدينية فكرة أن الفرح دنيوي زائل، وأن الحزن علامة تقوى، وربما طريق إلى الثواب.  

وتكرّرت العبارات في الأوساط الشعبية مثل:  

“الضحك يُميت القلب” أو “الفرح يلهي عن الآخرة” وغيرها مما ساهم في تحجيم مظاهر البهجة، وتكريس الحزن كقيمة أخلاقية وروحية.

السياسة وتراكم الوجع

بعد أن انحسرت العصور الذهبية، دخل العراق في نفق طويل من الغزوات والاحتلالات من المغول إلى الصفويين فالعثمانيين ثم البريطانيين ثم الانقلابات فالحروب فالحصار فالاحتلال الأميركي وصولاً إلى العنف الطائفي وعصابات الضلالة. 

فكان لكل جيل من العراقيين “كارثته” الخاصة، الجيل الذي عاش الحرب العراقية- الإيرانية وترعرع على صوت القصف والنشرات العسكرية.

وجيل الحصار في التسعينيات نشأ على الطوابير ونقص الغذاء وتحوّل الكرامة إلى سلعة يومية.

وجيل الاحتلال الأميركي الذي عرف التفجيرات والتهجير وفقدان الدولة وإضعاف الهوية.

والجيل الأحدث يعيش الغموض واللاثقة بين متراكمات الحروب والفساد وإعادة البناء في ظل احتدام عالمي في الشرق الاوسط.

هذه السلسلة المتواصلة من الخسارات رسّخت في الوعي الجماعي فكرة أن الحياة لا تستقر، وأن الفرح مؤقت، وأن الحذر هو السلوك الأسلم ،فأستمرالحزن كآلية وقائية، وسلوكاً غريزياً للبقاء.

الحزن في الأدب والفن

لم يكن غريباً أن يهيمن الحزن على النتاج الأدبي والفني العراقي. فالموسيقى والمقام والشعر الشعبي كلها تحمل في نبرتها حنيناً دائماً ولهجة مبللة بالوجع.

المقام العراقي يبدأ غالباً بنغمة حزينة ويُؤدى بصوت مبحوح مشبع بالشجن.  

كذلك العتابا والأبوذية والنايل أشكال شعرية كلها تنتهي بنبرة أسى حتى عندما تتحدث عن الحب.

الشعر العراقي لم يفصل بين الوطن والوجع، بين العشق والانكسار.  

وأغاني الريف والمدن، حتى في الأعراس، كثيراً ما تبدأ بجملة من الحنين أو الفقد، وكأن الفرح بحاجة إلى موافقة الحزن قبل أن يُعلن عن نفسه.

الحزن كأدب في السلوك

الأسرة العراقية بشكلٍ فطري تربي أبناءها على الحذر من الفرح “لا تضحك هواي”  “اليوم تضحك، باچر تبچي”  “الفرح ما يدوم”

تتكرّر هذه العبارات في البيت والمدرسة والشارع. ومع الوقت، يتشرّب الطفل هذه النظرة الحذرة للحياة ويكبر على أساس أن الضحك يجب أن يُحدّ وأن الحزن أكثر “احتراماً”.

في بعض البيئات، من يرقص يُعتبر “سخيفاً”، ومن يفرح أكثر من اللازم يُلام. وهكذا، يتحوّل الحزن من شعور إلى سلوك اجتماعي مقبول ومحبّذ، بينما يصبح الفرح بحاجة لتبرير.

الحزن كصقل أخلاقي وشخصي

رغم ما يبدو من سلبية الحزن وهيمنته، إلا أنه أسهم في صقل الشخصية العراقية، وخلق فيها سمات نادرة كالهيبة والوقار والتعاطف والاتّزان العاطفي.

فالشخصية العراقية، برغم ألمها لا تبدو هشة، بل تملك عمقاً يجعلها محطّ احترام، وفيها نوع من الكاريزما الهادئة التي تنبع من خبرة طويلة في مواجهة الحياة.  

كما أن الحزن” بوصفه معاناة ”  أنشأ تربية أخلاقية داخلية لدى الكثيرين، تقوم على مراعاة الآخرين، احترام الألم، وتجنّب السطحية والانفعال.

الفرح المكبوت والتوق المؤجل

كل هذا لا يعني أن العراقي لا يحب الفرح، أو لا يحتاجه، بالعكس تماماً هو يتوق إليه ويتمناه بكل ما فيه.  

لكنه، بفعل تراكم الوجع وتكرار الخذلان، أصبح الفرح بالنسبة له لحظة هشّة، تتبعها ضريبة من المجتمع، لذلك يتعامل معها بحذرٍ يشبه الخوف.

لعلَّ ذلك الشعور يتغير عندما يسافر العراقي، أو يغادر الدائرة الاجتماعية التي كبّلته لسنين فينفجر من داخله الفرح المؤجل، يضحك بحرية، يرقص دون خجل، يحتفل وكأنّه استعاد حقاً شخصياً كان مسلوباً.  

وهذا الانفجار لا يدل على سطحية، بل على حاجة عميقة طال كتمانها.

وقد لا تكون هذه الحالة بالشدّة ذاتها في مجتمعات عربية أخرى كمصر أو بلاد الشام أو المغرب العربي  والتي تبدو شعوبها أقرب إلى التفاؤل والانفتاح والتعبير العاطفي الحر.  

ولعلّ ذلك يُعزى إلى مجموعة من العوامل كالاستقرار النسبي،السياسي والمجتمعي، وقلة التطرف في بيئتها الجغرافية والانفتاح التاريخي على المتوسط، والارتباط بتجارة وثقافات متعددة، مما خلق مزاجاً مرناً، وأفقاً أكثر انبساطاً في التعامل مع الحياة.  

في حين ظلّ العراق عبر قرون طويلة محاصراً بالتوتر، منغلقاً نسبياً ومحكوماً بأنظمة صارمة، ومبتلى بمآسٍ متلاحقة غذّت فيه حسّ الحذر الوجودي، في الوقت ذاته كانت سبباً في نُضج الشخصية، وفي أناقتها الروحية، وفي شعورها بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الحياة والناس. 

صراع الأجيال مع الحزن

على الرغم من أن الحزن ظل لقرون طويلة جزءًا من المزاج العراقي العام، إلا أن نبرته لم تعد تسود بالصورة المطلقة كما في السابق. 

فمع ولادة أجيال جديدة، نشأت في ظل التكنولوجيا والانفتاح الرقمي، بدأت تظهر حركة مقاومة داخلية لهذا الحزن الموروث.

جيل اليوم، خاصة من الشباب، صار أكثر جرأة في التعبير عن مشاعره وأكثر رغبة في الضحك والاحتفال والرقص، دون أن يشعر بالخجل أو الذنب.

أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى الترفيهي والسفر والعلاقات العابرة للحدود في زعزعة مركزية الحزن حتى في الخطاب الثقافي اليومي.

نرى اليوم شابات وشباناً يُغنون ويرقصون ويصنعون نكاتهم بأنفسهم، ويرفضون أن تُربط هويتهم بالمأتم الدائم، 
وهذا لا يعني أنهم لا يشعرون بالألم بل يعني أنهم يريدون التعبير عنه بطرق أقل ثقلاً وأكثر حرية وربما أكثر حياة.

ومع هذا التغير بدأت تظهر فجوة جيلية في النظرة للحزن:
الكبار يرونه “رصانة”، و” وقاراً “، و “أدباً اجتماعياً”،
بينما يراه كثير من الجيل الجديد “قيداً”، و “ثقلاً غير مبرر”، و “إرثاً يجب مراجعته”.

إننا اليوم نعيش لحظة صراع ناعم بين الذاكرة الجمعية التي تربّت على الألم كفضيلة، وبين ذاكرة جديدة تُبنى على الانفتاح والحيوية وتقبّل الذات.

وربما لا تكون الغلبة لطرف دون آخر، بل سيبقى الأمر يتأرجح بين الاثنين، يحاول أن يوازن بين عمق الحزن الذي كوّنه، وحيوية الفرح الذي يحتاجه.

ولعلّ السؤال الذي يبقى مطروحاً بعد كل هذا:  

هل يمكننا أن نصنع توازناً؟ أن نمنح الحزن مكانه الطبيعي دون أن نسمح له بابتلاع الفرح؟ أن نضحك ببساطة، دون أن نتوجّس؟

ربما آن الأوان لأن نعيد النظر في تلك الجملة التي ورثناها:  

“الله يچفينا (يكفينا) شرّ هالضحكة”، ونستبدلها بدعاء أكثر بهجة: “الله يديمها علينا، ويزيدها”.

أقرأ أيضا