التعدد السكاني أزمة السياسة العراقية القادمة

“لا تخبرهم بكل شيء..؟ ولا تعطهم معلومات حول كل ما نملك..؟ أخبرهم أننا نملك برادا واحدا ولا تقل لهم يوجد برادين”.. هذا ما لقنتني به والدتي عند قدوم فريق الإحصاء لمنزلنا، أثأر هذا التخوف من والدتي تساؤلات في داخلي، لكن هذه المرأة البسيطة والمناضلة في الحياة منُذ الحصار وحتى ألان ألجمتني بجواب جعلني أتلعثم في حديثي معها قالت لي بلهجة شعبية “يمه هاي الحكومات الفاسدة اللي قبلت يطلع نور زهير واللي سرقت كل حقوقنا و قتلت ولدنا لمن رادوا محاسبة الفاسد واللي حارت شلون تسرق أموال الشعب، نخاف منها وما نكدر نثق بيها أبد” أعطيت المعلومات كافة للفريق وبقيت أفكر في كلامها.

يمثل الإحصاء والتعدد السكاني العمود الفقري للتقدم الدول وازدهارها هو عملية منظمة وجمعية لجمع البيانات المتعلقة بجميع الأفراد المقيمين في منطقة جغرافية محددة في وقت معين ويشمل ذلك جمع المعلومات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية عن هؤلاء الأفراد.

التعداد يوضح الحجم الكلي للسكان ومعرفة عدد الأشخاص المقيمين وكثافة السكان في المناطق المختلفة وتوزيعهم على المدن والقرى ويحدد الخصائص الديموغرافية ومعرفة هيكل السكان من حيث العمر والجنس والمستوى التعليمي والحالة الاجتماعية.. الخ، وأهم ما يفعله التعداد هو تحديد الخصائص الاقتصادية بمعرفة الأنشطة الاقتصادية للسكان ومستويات دخلهم كما يوفر بيانات أساسية للتخطيط واستخدامها في التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية كما يوفر التعداد بيانات دقيقة وشاملة عن التركيبة السكانية والتوزيع الجغرافي والخصائص الاجتماعية والاقتصادية للسكان وهذه البيانات الأساسية تلعب دورا حاسما في عملية التخطيط والتنمية خلال اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الصائبة، وأهم ما يساهم به التعداد السكاني هو التخطيط العمراني وتحديد المناطق الأكثر كثافة سكانية و تخطيط البنية التحتية وتوزيع الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والمواصلات وغيرها بشكل عادل و يوفر التعداد معلومات دقيقة عن احتياجات السكان المختلفة مما يساعد في تخصيص الميزانيات اللازمة لتوفير الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والسكن.. الخ.

كما يساهم التعداد بشكل فعال في وضع سياسات مستنيرة في كافة مجالات، حيث يوفر البيانات اللازمة لتحديد الفئات المستهدفة وتقييم فعالية البرامج يمكن استخدام بيانات التعداد لتقييم التقدم المحرز في تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتحديد التحديات التي تواجه المجتمع كما يصنع توقعات حول التغيرات السكانية في المستقبل مما يساعد في التخطيط للنمو السكاني وتلبية الاحتياجات المتزايدة ويوفر دعم البحث العلمي إذ يعتبر مصدرا غنيا للبيانات التي يمكن استخدامها في الأبحاث العلمية في مختلف المجالات كما يعتبر عامل أساسيا في تعزيز الديمقراطية من خلال توفير تمثيل عادل في الهيئات التشريعية وباختصار يمكن القول أن التعداد السكاني هو أداة أساسية لبناء الدول و المجتمعات بأكثر عدالة وازدهارا هذا ما يمثله التعداد السكاني النزيه والشفاف في الدول المستقرة والمتقدمة.

إن كان التعداد السكاني يمثل هذه الأهمية البالغة لما غاب عن المشهد العراقي لأكثر من ثلاثة عقود، حيث كان آخر تعداد سكاني شامل منُذ عام 1987، وبعدهُ تعداد 1997 الذي لم يشمل محافظات إقليم كردستان العراق ان في الدول التي تعاني من تخلف سياسي وصراعات محتدمة غير مستقرة يكون بها التعداد يحمل في طياته آمالاً وتحديات كبيرة ويتداخل مع العديد من القضايا المعقدة التي تعاني منها الحكومة العراقية ونظامها.

تواجه عملية التعداد في العراق تحديات كبيرة ناجمة عن أزمة الثقة المتجذرة بين الشعب والحكومة وهذا ما قصدتهُ والديني في عفويتها فسنوات من الفساد والمحسوبية وعدم الاستجابة لمطالب المواطنين والأزمات المتراكمة أدت إلى تآكل الثقة في المؤسسات الحكومية هذا الأمر يجعل العديد من المواطنين يشككون في نزاهة عملية التعداد ويخشون من استغلال البيانات الشخصية لأغراض سياسية أو اقتصادية تأزم الوضع أكثر سوءً مما هو عليه ألان كما أن غياب التعداد السكاني لسنوات طويلة وارتباطهُ في أذهان الكثيرين بالصراعات السياسية والطائفية زاد من حالة الشك وعدم الاهتمام فالمواطن العراقي يرى في التعداد أداة تستخدمها الأحزاب السياسية لتقوية نفوذها وليس أداة لخدمة المجتمع.

النتائج هي الأزمة الحقيقة التي ستكون بين القوة السياسية، إن النظام السياسي العراقي الذي بني بـ”عرف سياسي طائفي وقومي” ستكون نتائج التعداد السكاني اذ تمت بشفافية ونزاهة هي خطر حقيقي على “عرف النظام السياسي ” حيث تكشف نتائج التعداد عن العديد من الحقائق المقلقة لهذا النظام والتي قد تؤدي إلى تفاقم الصراعات السياسية والطائفية والقومية فمن بين هذهِ التداعيات هي النتائج في المناطق المتنازع عليها و التي تؤدي إلى تعمق الخلافات بين الإقليم والمركز وهذا ما حدث في كركوك وما شاهدنا من صراع ومطالبات باستثناء كركوك من التعداد او تأجيله بسبب دخول كم هائل من العوائل من مناطق إقليم كردستان إلى كركوك دون تدقيق امني في محاولة لقيام تغيير ديمغرافي لمناطق كركوك.

كما سيحتدم الصراع حول توزيع الموارد والثروات حيث ستكشف عملية التعداد عن لأعداد الكبيرة من الوظائف الوهمية(الفضائيين) وهذا ما سيتطلب إجراء إصلاحات واسعة النطاق في الجهاز الإداري للدولة وسوف تؤدي النتائج إلى تغيير في توزيع المقاعد النيابية والموازنة بين المحافظات وهذا ما يثير حفيظة الأحزاب السياسية التي تعتبر هذه الموارد مصدراً لتمويل أنشطتها واقتصادياتها كونها أحزاب زبائنية اقتصادية وليست أحزاباً شعبية ذات مشروعية وفكر جماهيري سياسي وهذا ما سيؤدي الو وضع الحكومة في مواجهة مباشرة مع الأحزاب السياسية وزعاماتها التي تهمين على قرار النظام السياسي مما يؤدي بوضع احتماليين لا ثالث لهم

الأول- هو الالتزام بعمل التعداد بحيادية ومهنية وإعلان النتائج بكل شفافية ونزاهة وعندها ستكون الحكومة ملزمة بمواجهة القوة السياسية المتضررة وإيقاف الاستغلال التي تمارسها القوة السياسية اتجاه موارد الدولة وقد يكون هذا الخيار الأبعد بسبب توغل هذه القوى المتضررة  داخل أجهزة الحكومة والصناع القرار وهيمنتها على النظام بترسيخها العرف الطائفي والقومي للنظام السياسي في العراق.

الثاني – وهو إخضاع نتائج التعداد السكاني لعملية المحاصصة وتقسم النفوذ السياسي بين الأحزاب المهيمنة على مبدأ “تقسم الكعكة” المتبع في توزيع مواد الدولة بين سلطة الأحزاب تحت ذريعة الاستحقاقات الطائفية والقومية وهذا السيناريو هو الاقتراب للتنفيذ، كون الحكومة الحالية هي نتاج اتفاق سياسي انبثق من أحزاب السلطة المهيمنة وهي ذاته المتضررة من النتائج إذا أعلنت بشفافية ونزاهة ومهنية.

التعداد السكاني في العراق بالإمكان أن يمثل فرصة ذهبية لإعادة بناء الدولة على أسس سليمة لكن هذه الفرصة يهدد ضياعها هيمنة أحزاب طائفية وقومية على السلطة وجميع مقدرات ومؤسسات الدولة فلتحقيق النجاح في هذه العملية يتطلب الأمر بناء الثقة بين الحكومة والمواطن بإصلاحات كبرى حقيقية وجذرية تقوم على الشفافية والنزاهة والفصل بين السلطات وضمان خدمة الصالح العام.

أقرأ أيضا