صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الثامن من آب في ذاكرة محبيه

عام 1988 كنت طالباً جامعياً أدرس الادب الانكليزي بكلية الاداب/ جامعة بغداد، كانت دنيانا جميلة، لكن الحرب مع إيران وتداعياتها تنغص علينا حيويتنا وتعتم رؤية مستقبلنا، كنا ندرس ونتدرب في نفس الوقت، عطلتنا الصيفية كنا نقضيها داخل معسكرات التدريب المنتشرة من البصرة الى الموصل، وفي كل عام نظن انهم ذاهبون بنا الى جبهات القتال لا محال، نظراً لخطورة موقف الجبهات في ذلك الوقت، حيث كانت الفاو محتلة والهجومات مستمرة على جبهة يبلغ طولها حوالي 1000 كيلومتر، لكنهم يتراجعون في اللحظات الاخير خوفاً على فراغ الجبهة الداخلية.

أستطيع ان أصف وضع العراق في ذلك الوقت على شكل لوحة كبيرة فارغة يقف أمامها رسام كبير ماهر يهوى الحرب والسلم في آن واحد، بدأ عمله يرسم في احد جوانب اللوحة جنود وخوذ ودبابات وسمتيات وصواريخ وفي الجانب الاخر يرسم جامعات ومدارس ومعامل ومؤسسات وسينمات ومسارح ودوري كرة متعدد وصعود الى كأس العالم في المكسيك، كلا الجانبين يُرسم بدقة على مدى ثماني سنوات، الكل يعمل  وكأن الحرب انطفأت نيرانها على الحدود مع ايران.

لا أعرف كيف أستطاع نظام صدام في ذلك الوقت الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية على مدى ثماني سنوات طوال!! الحرب طالت ويأسَ الكثير من وقوفها، سمعنا الكثير عن مبادرات وقف إطلاق النار وزيارات لمسؤولين كبار من الامم المتحدة قام بهما أمثال (كولد فولدهايم وخافير بيريز ديكولار)، وسمعنا عن مبادرات لدول عدم الانحياز والمؤتمر الاسلامي وجامعة الدول العربية، لكن كل تلك المحاولات كانت تُخفق في إخماد نيران الحرب.

وسمعنا وصدقنا ايضاً الكثير من البيانات الصادرة من دول عظمى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي تدعو لإيقاف الحرب، متجاهلين حقيقةْ ان هذه الدول كانت تتعمد إطالة أمد الحرب لتصفية حساباتها بايدي شرق اوسطية اسلامية خدمةً لمصالحها ومصالح حليفتهم اسرائيل.

في عام 1986 احتلت ايران الفاو، وبدأت الحرب تأخذ منحى آخر يؤثر على الجبهة الداخلية وأصبحت البصرة ومدنها في مرمى مدفعية الجيش الايراني، ونزح الكثير من البصريين، وسكنوا مدنا بعيدة عن ديارهم مثل الانبار وكركوك، وظنَ الكثير من العراقيين ان الوضع يزداد سوءا، وربما لن تتمكن القيادة العراقية في حينها من ضبط الجبهة الداخلية، الكل يراقب وينتظر ما ستؤول اليه المعارك القادمة.. معضلة الفاو ومعارك تحريرها أرهقت وأتعبت العراق كثيراً.

استعان العراق بخبراء ومستشارين مصريين علهم يجدون حلاً لعقد الفاو، مناورات كبرى تجرى على اراضٍ مشابهة لشبه جزيرة الفاو (المملحة)، تضاريس صعبة جداً، صعبتْ مهمة الدرع في حسم المعارك. كل هذه التعقيدات والصعوبات يقابلها اصرار كبير من نظام صدام في الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية ومواصلة المعارك واسترجاع الفاو باي ثمن، إلى أن جاء يوم 17 نيسان 1988 واسترجعت الفاو للعراق بمعركة استمرت 32 ساعة فقط، اُعتبرت في حينها رقمأً قياسياً.

معركة غيرت مجرى الحرب وأدت إلى انهيار في القوات الايرانية، بدأت على أثرها سلسلة من الانتصارات العراقية في كافة الجبهات، عزاها الكثير الى تدخل الولايات المتحدة الامريكية وتزويدها العراق بصور تلتقطها الاقمار الصناعية الامريكية ألتي تكشف تواجد القطاعات الايرانية على مختلف الجبهات.

اقترب اليوم الموعود.. إيران لم تعد تكابر وتعاند وتصر على مواصلة الحرب، فاسحةً المجال للحلول الدبلوماسية السلمية ولو على مضض، واصفةً قبول وقف إطلاق النار على لسان مرشدها الأعلى اية الله الخميني بتجرعها كأس من السم.

أي عناد وعنجهية وأي انكسار هذا!!

لم يكن الكثير منا يصدق انه سيرى هذا اليوم يقترب، الثامن من آب طلبة الجامعات العراقية جميعهم في معسكرات التدريب، لم يصدقوا اذاعة البيان على لسان مقداد مراد مذيع تلفزيون العراق الرسمي، الوقت ليلاً وليس من عادة القيادة العراقية اذاعة بياناتها في مثل تلك الاوقات،  لكن عظمة الحدث وقوة تأثيره على الشعب العراقي أَجبرت الحكومة العراقية على  اذاعة بيان البيانات في وقت متأخر من تلك الليلة، وخرج العراقيون عن بكرة ابيهم فرحين بهذا النصر الكبير الذي طال انتظاره.

حقيقة النصر تعني توقف أطول حروب القرن العشرين مهما كانت نتائجها وعودة الحياة المدنية من جديد واستئناف مشاريع التنمية بكل الوانها وإبعاد شبح الموت والأسر والعوق عن العائلة العراقية.

Mayesh21@gmail.com

أقرأ أيضا