صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الجامعة والنخبة.. وثقافة حقوق الإنسان

الحديث عن الجامعة ودورها في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان هو حديث عن (النخبة المثقفة)، وأقصد بالنخبة المثقفة، الفئة التي تعمل في حقل الثقافة، وفي إنتاج الوعي الذي تحرص على بثه في المجتمع عبر قنوات عدة، منها: الكتب، الصحافة، التلفزيون، وكذلك الجامعة التي تعمل فيها هذه النخبة.

 

وفي حال استبدلت مفردة (الجامعة) بمفردة (النخبة)، ليكون عنوان الندوة: (النخبة وثقافة حقوق الإنسان)، لما غيرت في مضمون وعنوان الندوة شيئاً، فالجامعة في النهاية مؤسسة تعليمية تضم نخبة مثقفة يمثلون ركنها الأساس، ويقع على عاتقها مسؤولية ودور كبير في تنشئة أجيال على ثقافة ما، وهنا تكمن خطورة الجامعة وأهمية دورها في المجتمع،

 

وعليه سيدور حديثنا حول أربعة محاور: النخبة، الثقافة من وجهة نظر عامة، ثقافة حقوق الإنسان خاصة، السلطة السياسية بوصفها الأداة التي تحدد وتضبط إلى حد كبير المحاور الثلاثة الأولى سلباً أو إيجاباً، وسيتعرف المتلقي أكثر لماذا اخترت الوقوف عند هذه المحاور التي تشكل صلب تحليلنا، ولماذا أي إهمال لمحوري (الثقافة عامة) و(السلطة السياسة) يعني تضليل المستمع وتقديم صورة ناقصة وغير مستوفية للموضوع،   

 

يفرض علينا موضوعنا شأنه شأن أية موضوعٍ إشكالي جملة أسئلة، منها:

1 ـــ هل ثقافة حقوق الإنسان ثقافة أصيلة في مجتمعنا أم أنها دخيلة وغريبة عن مكونات ثقافتنا؟

2 ـــ هل الجامعة بــ(كوادرها) مؤهلة لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان؟ وهذا السؤال يستهدف من نطلق عليهم النخبة، وفيما إذا كانوا مؤهلين لهذا الدور أم لا.

3 ـــ هل تدريس مادة حقوق الإنسان في الجامعات يكفي لتعزيز هذه الثقافة وتكريسها في المجتمع؟ أم أن الأمر مرتبط بجملة مؤسسات الدولة ابتداءً من التربية والتعليم وصولاً إلى الإعلام المكتوب والمرئي.

4 ـــ ما هو دور السلطة السياسية في تعزيز ودعم ثقافة حقوق الإنسان؟ وهذا السؤال يرمي إلى بيان طبيعة العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية، وإلى أي حد توظف السلطة السياسة الثقافة ومؤسسات إنتاج المعرفة لصالحها،

 

اسمحوا لي أن أجيب، ومن غير مواربة أو تحايل على عموم هذه الأسئلة، بالسلب، مع التذكير بوجود استثناءات قليلة في تراثنا وثقافتنا، أعدها سلوكاً فردياً هامشياً يبرز هنا أو هناك، قياساً إلى عقل جمعي، وثقافة عامة سائدة وراسخة الجذور، تقف حاجزاً أمام أي تقدم في هذا الملف الخطير والمهم،   

 

لنسجل أولاً أن مصطلح (حقوق الإنسان) حديث التداول في مجتمعنا، فهو من نتاج التغيير السياسي الذي شهده العراق بعد عام 2003، إذ جرى تداوله على نطاق واسع في الإعلام، وفي غيره من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وكان من نتائج ذلك أن عملت وزارة التعليم على تجديد المناهج، فحذفت مواد وأضافت مواد، من بينها مادة حقوق الإنسان والديمقراطية، وحسناً فعلت الوزارة لهذه الإضافة،

 

لكن ما حصل هو أن هذه المادة لم تلق نصيباً من الاهتمام والتفاعل، إذ يُنظر لها على أنها زائدة وغير أساسية، وربما كان من أسباب ذلك هو أستاذ المادة ذاته، فجميعنا نعلم أن الاهتمام والتفاعل مع مادة دراسية ما، يعود إلى مدرس المادة ذاته، لذلك تحتاج مادة (حقوق الإنسان) أساتذة أكفاء ومختصين لهم القدرة على نقل روحها ومضمونها إلى متلقيها من الطلبة،

 

ولنسجل ثانيةً أن الأمم التي تعاني من التمييز والظلم وغياب الحقوق، هي الأمم التي تلجأ إلى ثقافة حقوق الإنسان، وكأن هذه الثقافة لا تصبح مطلباً ويبرز الاهتمام بها إلا بوجود نقيضها وخلافها،

 

والحال أن الحديث عن حقوق الإنسان أمر يحيلنا إلى ظاهرة رافقت المجتمع العراقي منذ أمد بعيد، هي ظاهرة العنف، وهذه الظاهرة في النهاية وليدة عوامل عدة، أستطيع القول: إن للثقافة حصة الأسد فيها، وبعبارة أخرى أن وجود حقوق الإنسان من عدمه في مجتمع ما، أمر تحدده الثقافة السائدة التي تشكل هويتنا وتحكم أذواقنا وأقوالنا وسلوكنا، بل وتحكم تفكيرنا ورؤيتنا للأشياء وللعالم،

 

وقد لا أبالغ إذا قلت: حتى هذا الصوت الذي تسمعه، وزاوية النظر للموضوع في ورقتنا هذه، وإلى حد كبير مزاجنا اجمع نحن المجتمعون في هذه الندوة، هو وليد تكويننا الثقافي والتربوي.

 

إن الحديث عن دور الجامعة في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان أمر يلقي بظلاله على عموم مؤسستنا التعليمية، وعندما أقول عموم مؤسساتنا التعليمية، فلأننا في هذه المؤسسات نكتسب الثقافة، من هنا الدور الخطير الذي تلعبه هذه المؤسسات بوصفها موقعاً من مواقع نشر الثقافة وبثها في المجتمع.

 

وهذا المعنى هو الذي جعل كل النظم السياسية التي حكمت العراق تعمد إلى إلحاق المؤسسات التي تعنى بنشر الثقافة من مدارس، ومعاهد، وجامعات، ووسائل إعلام ومراكز ثقافية، بسياساتها، أي بالأيديولوجيا التي يعتمدها هذا النظام أو ذاك،

 

وهكذا، فإن الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات، وخاصة الجامعة، في تشكيل الثقافة وبثها في المجتمع، يجعلها في مقدمة المؤسسات الفاعلة في الشأن الثقافي، وإذا كان هذا هو ما ينبغي أن يكون، فإن ما هو كائن خلاف ذلك، أقصد أن الجامعة ودورها التنويري المفترض في المجتمع أبعد ما يكون عن التأثير في عموم طبقاته، وأحياناً لا يكون له تأثير في الطالب ذاته، هذا إذا ما تخرج هذا الأخير، وهو يحمل كماً هائلاً من النقمة والسخط على الجامعة، ولا يبقى في ذاكرته سوى علاقات عابرة وانطباعات متفرقة عن هذا الدرس أو ذاك، ولهذا تبدو الجامعة غير مؤثرة ولا فاعلة، لا في طلبتها ولا في المجتمع.

 

لا شك أن الجامعة في العراق قد أنجبت أسماء لامعة وكفاءات فذة، خاصة في العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين، وهؤلاء بدورهم كان لهم بصمة وأثر واضح في البعض من تلامذتهم، لكن خارج أسوار الجامعة الأمر غير ذلك، ومع أن تفسير ذلك يعود إلى الحكومات وسياساتها في إغراء وتدجين النخب لصالحها تارة، وفي تغييب وإقصاء كل صوت معارض تارة أخرى، الأمر الذي يؤكد حقيقة أن الجامعة بقيت حبيسة قيود النظم السياسية، وهذا الأمر بدوره أوقف عملية النمو التدريجي لحرية البحث والقول، وعندما تغيب الحرية عن الجامعة، وبعبارة أدق عن المثقف، فلا تفسير لذلك سوى: أن النظام التربوي والتعليمي كسلطة في المجتمع غير مستقل عن السلطة السياسية وقوانينها التي تحدد ما يسمح به ولا يسمح به، ما ينبغي أن يُدرس ويُعلم وما لا ينبغي أن يُدرس ويُعلم، وبعبارة موجزة: (ما ينبغي قوله وما لا ينبغي قوله).

 

واسمحوا لي ثانيةً بالمقارنة بين دور الجامعة في الغرب ودور الجامعة في مجتمعاتنا، لقد لعبت الجامعة في الغرب دوراً رئيسياً في عملية التغيير الثقافي والاجتماعي والسياسي، أكان ذلك زمن الأزمات الكبرى أم زمن الاستقرار، تمثل ذلك بنشر العلوم الإنسانية الحديثة، وفي تقليل نسبة الجهل، وتصحيح الكثير من التصورات الظلامية والأسطورية للحياة والكون، كما ساهمت في بث ونشر ثقافة حقوق الإنسان خارج أسوارها، وكانت عامل ضغط كبير على قوى ومؤسسات الدولة، ولا زال الأمر كذلك، وهذا ما لم تحققه جامعاتنا، لا زمن الأزمات، حين تمد يدها للمشاركة في الشأن العام بغية إيجاد الحلول ومعالجة المعضلات لصالح المجتمع، ولا زمن الاستقرار النسبي الذي يفترض فيه أن تتقدم الجامعة على سواها من المؤسسات، رغم أن هذا الأخير (أقصد الاستقرار النسبي) نادراً ما حظي به المجتمع العراقي منذ تأسيس دولته الحديثة وإلى اليوم، وربما كان أقصى ما تقدمه الجامعة في مجتمعنا هو تخريج عدد قليل من الطلبة الجيدين، من الذين حظوا بتعليم لا أبالغ إذا قلت: إن القسط الأعظم منه هو نتاج جهد ذاتي لا علاقة للجامعة به، فضلاً عن تقديم خبرتها واستشاراتها إلى مؤسسات الدولة، ويبقى أن دورها محصور داخل أروقتها، وهو دور أبعد ما يكون عن التأثير في الشأن العام، أو التأثير في الواقع السياسي والاجتماعي، فضلاً عن الثقافي نفسه، وهكذا لم تكن الجامعة، لا ماضياً ولا حاضراً، أكثر من أداة بيد النظم السياسية الحاكمة تطوعها وتدجنها وفق مقتضيات (مصلحة النظام السياسي الحاكم)، أي وفق الأيديولوجيا التي يرتئي هذا النظام أو ذاك بثها في المجتمع، وليس وفق ما ينتظره المجتمع من هذه المؤسسة باعتبارها صرحاً تنويرياً، وأعتقد أن عوامل مثل: الدكتاتورية، الطائفية السياسية، النزعة القبلية، التأخر المعرفي وسيادة الجهل، فضلاً عن أسوأ نسخ الأصولية الدينية التي لا زالت حاضرة في مجتمعنا، لعبت دوراً في أن لا تأخذ الجامعة دورها التنويري المفترض إزاء المجتمع.

 

نخلص من ذلك إلى أن مؤسساتنا التعليمية تتبع السلطة السياسية، ويبدو أن الأنظمة السياسية في مجتمعنا، وفي كثير من المجتمعات المتأخرة، لا زالت تهتدي بهدي رؤى أفلاطون، حيث التربية لدى هذا الأخير حقل تتحكم به السلطة السياسية وتديره، لكن الفرق بين التصور الأفلاطوني للدولة وبين ما آلت إليه شؤون السياسة في مجتمعاتنا، هو أن الأول أراد جعل رأس الدولة في مدينته الفاضلة هو (الفيلسوف)، بوصفه الأجدر في تدبير شؤون الدولة، في حين أن مجتمعنا، وغيره، انتهى إلى جعل أنصاف المتعلمين، وأحياناً الجهلة على رأس الدولة.

 

إن تعزيز ثقافة حقوق الإنسان يعني مواجهة كل ما هو نقيض هذه الحقوق من كبت للحريات وتمييز واستبداد وغياب للعدالة، ولو توفرت هذه الحقوق في مجتمعنا، لما عقدنا ندوة للحديث عنها وعن دور الجامعة في تعزيزها، مع التذكير بأن الدستور العراقي، في الباب الثاني منه، والموسوم بــ (الحقوق والحريات) قد احتوى جملة مواد تكفل هذه الحقوق، من(مساواة أمام القانون دون تمييز)، ومن (منح كل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية)، وغيرها من مواد تحاكي بشكل واضح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1948، ورغم عصرية هذه المواد وتقدمها على صعيد الحقوق والحريات مقارنةً بدول المنطقة، إلا أنها بقت حبيسة النصوص ولا علاقة لها بالواقع، يدل على ذلك الكثير من الشواهد، منها: مؤسساتنا الصحية، فعلى الرغم من أن هذه المؤسسات وجدت بقصد رعاية المرضى وعلاجهم، إلا أن واقع الحال غير ذلك! وينبغي أن لا ننسى أن مسئولي هذه المؤسسات والعاملين فيها هم خريجي مؤسساتنا التعليمية !  فأين ذهب الحس الإنساني الذي يفترض حضوره في أكثر المؤسسات رعاية بالإنسان؟.

  

ما أريد قوله: هو إن ثقافة حقوق الإنسان ليست قميصاً ارتديه حتى أصبح إنسانياً، إنما هي تربية وتعليم وجهد يبذل، يبدأ من الأسرة ويمر عبر شتى المؤسسات التربوية والتعليمية، ولذلك لم يسبق أن حصل في التاريخ البشري أن شعباً ما نهض صباحاً ووجد لديه ما نطلق عليه (حقوق الإنسان)، ومن يقول بخلاف بذلك، متناسياً أن حقوق الإنسان إنما هي نتاج تراكم تاريخي طويل، نتاج تشريعات وقوانين اشتركت فيها أمم وثقافات ومؤسسات وجملة من المفكرين، فأنه يعمد إلى تضليل مستمعيه وخداعهم، لأن تعزيز ثقافة حقوق الإنسان، بما تعنيه هذه من (الحق في الحياة وفي حرية التعبير والرأي والمساواة وعدم التمييز)، تبقى أبداً ودوماً جهد يبذل تشترك فيه مؤسسات شتى، فضلاً عن حزمة قوانين (تحفظ تلك الحقوق) وتعززها النظم الحاكمة، وأعتقد أن إدامة هذه الثقافة وتكريسها في المجتمع يتطلب (نخبة سياسية) مؤمنة بها، تعمل على بث وإشاعة هذه الحقوق في مختلف طبقات المجتمع، وغرسها في وعيهم كما تغرس العادات والتقاليد التي نتلقفها من الأسرة والمجتمع، أمر كهذا إذا ما تحقق، عندها نستطيع القول: إننا بلغنا عتبة الدخول في نادي حقوق الإنسان.

 

وإذا ما سُئلت عن مستقبل حقوق الإنسان في العراق، وهل سَيَكتُبُ لها النمو والازدهار في مجتمعنا؟ سأقول: إن مستقبل هذه الحقوق رهين الثقافة السائدة، وإذا ما توفرت الأدوات التي تجدد هذه الثقافة صوب ثقافة أكثر إنسانية فإن حقوق الإنسان سترى النور حينها، أقول ذلك، لأن بنية مؤسساتنا والثقافة السائدة في مجتمعنا، لا تفضي إلى إنتاج فرد يتمثل ثقافة حقوق الإنسان، ويجعل منها عنواناً لسلوكه، لذلك من غير إعادة نظر جريئة وصارمة في مؤسساتنا، وخاصة التعليمية منها، يبقى الحديث عن حقوق الإنسان محض وهم لا غير.

 

خلاصة القول: إنه ما لم تجدد الثقافة في مجتمعنا، ما لم تجدد مؤسساتنا، بما فيها الجامعة، لن يتغير العقل العراقي، فبهذا التجديد وحده، نستطيع القول: إننا أمام ولادة جديدة للثقافة وللجامعة معاً، ومثل هذا التجديد إذا ما تحقق هو في المحصلة ولادة جديدة للفرد العراقي نفسه، من شأنها هجر الرديء والمتحجر في ثقافتنا، صوب الثقافة التي يكون فيها الفرد أثمن حاجة وأكبر قيمة في الوجود، وذلك هو شعار حقوق الإنسان.

 

 

كلية العلوم السياسية/ فرع الفكر السياسي

 

 

 

أقرأ أيضا