ربما يرى البعض في عنوان هذا المقال نوعا من التجني على الجيش وعلى الوطن في آن واحد، لا سيما وان جيشنا كان من الجيوش القوية التي يشار لها بالبنان لما يمتلكه من تاريخ شهد ظهور أجيال وكوادر عسكرية ذات خبرة عالية حملت شهادات دولية من أكاديميات عالمية، اضافة الى حداثة التسليح الذي كان يمتلكه، لكن هذا التاريخ لا يتطابق مع واقع الحال.
إن الاسباب التي جعلت من عظمة وقوة وصلابة ومهارة الجيش العراقي خبرا لكان، عديدة ومتنوعة وأولها حروب الاستنزاف التي خاضها هذا الجيش والتي دمرت معنوياته قبل أن تمزقه وتجعل منه جيشا محطما لا يملك بعض قادته سوى العقيدة التي تدفعه للقتال من جهة ومن جهة أخرى، الخوف من عقوبة الاعدام التي كانت تلاحقهم حتى في انتصاراتهم فكان الطاغية صدام حسين لا يتوانى في اصدار حكم الاعدام بحق اي قائد عسكري بمجرد الظن الشخصي والوسواس القهري بأنه قد يشكل خطرا على كرسيه حتى طال ذلك الظن المرضي اقرب الناس له وهو الفريق الاول ركن عدنان خير الله الذي دبر له عملية اغتيال ناعمة اودت بحياته رغم انه كان ربيبه ورفيقه وابن خاله وخال اولاده ووزير دفاعه الأمين والسبب هو ارتفاع نسبة شعبيته ومحبته من قبل المحيطين به، وطال الاعدام غيره من خيرة ضباط الجيش وقادته والذين انهت حياتهم رصاصة تافهة كان النظام وبكل وقاحة يطالب اهل المعدومين بدفع ثمن هذه الرصاصة عند استلام جثثهم.
رغم ان صدام حسين استخدم جيشه في ضرب ابناء شعبه في معارك الانفال سيئة الصيت واثناء انتفاضة اذار (الشعبانية) عام ١٩٩١ لكن الجيش العراقي ابلى بلاء حسنا في مواقع كثيرة دفاعا عن بلده وآخرها حرب الخليج الثانية عام ٢٠٠٣ حيث قاتل باستبسال حتى الرمق الأخير رغم ضعف امكاناته التسليحية مقارنة بامكانات دول التحالف المتقدمة وأذاق اقوى جيوش العالم وهو الجيش الامريكي مرارة الهزيمة في معارك المطار وام قصر والناصرية والحيدرية جنوب كربلاء والتي عتم عليها الاعلام الامريكي تعتيما كاملا لأنها كانت فضيحة مخزية لكن التسريبات الاعلامية التي سربها بعض جنوده كشفت حقيقة وواقع الخسائر التي تكبدها الجيش الامريكي في تلك المعارك.
إن أسوأ قرار عمل لأجل تمريره قادة القوى السياسية التي هيمنت على الحكم بعد سقوط بغداد واحتلالها عام ٢٠٠٣ هو حل الجيش العراقي والاجهزة الامنية، ذلك القرار السيء الصيت الذي اتخذه الحاكم المدني الامريكي للعراق بول برايمر بطلب من قادة الاحزاب السياسية والذي وجد فيه الامريكان ضالتهم للثأر والانتقام من الجيش العراقي الذي اذاقهم الهزائم النكراء في المعارك السابقة الذكر ولإطفاء نار الحقد التي كانت تملأ صدورهم لا سيما وزير الدفاع الامريكي الاسبق وعراب الحرب على العراق المقبور دونالد رامسفيلد انتقاما لمقتل صهره الطيار الامريكي سكوت سبايكر الذي فطس جراء اسقاط طائرته في العراق عشية الهجوم الوحشي على بغداد اثناء حرب الخليج الأولى عام ١٩٩١ ولاسباب اخرى اهمها هاجس الخوف الذي كان ملازما لقادة القوى السياسية التي جاءت بعد ٢٠٠٣ من أن يقلب عليهم ذلك الجيش القوي الطاولة ويعيد حزب البعث للسلطة من جديد، لأن الكثير من قادة الجيش كانوا موالين للرئيس الاسبق صدام حسين ناهيك عن الشحن الطائفي الذي غير مسار الاحداث بعد ٢٠٠٣ فتحول المشهد السياسي من سلطة بعثية سنية تحكم البلد بقبضة حديدية الى سلطة مشتتة غير قادرة على السيطرة على حي سكني بسبب المحاصصة، يسيرها الانحياز الطائفي (الشيعي) والقومي (الكردي) ومن ثم تطورت الاحداث ليتحول المشهد الى صراع بين الطائفة الواحدة والقومية نفسها، فصار الصراع شيعيا شيعيا وسنيا سنيا وكرديا كرديا مما مهد الى التخطيط لمشروع وطن مقسم الى دويلات صغيرة وضعيفة، دويلة شيعية واخرى سنية وثالثة كردية وأول من دعا الى التقسيم والانفصال عن العراق هم الكرد باستفتاء عام دعا له زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني عام ٢٠١٧ كانت نتيجته مطالبة الشعب الكردي بتأسيس دويلة جنوب كردستان تدفعهم العاطفة القومية وعقدة اضطهاد الأقليات التي عانوا منها لسنوات طوال دون النظر الى ما هو ابعد من ذلك وهو اطماع الدولتين المجاورتين للأقليم (تركيا وايران)، اللتين تنامت قوتيهما بشكل سريع للتوسع على حساب العراق الضعيف بحجة القضاء على المعارضة الكردية في العراق والذي سوف يكون المبرر الأول لكليهما بابتلاع الاقليم ، فتحول البلد من بلد موحد تعيش فيه القوميات والاديان والطوائف والاعراق المختلفة بسلام وامان الى بلد مهشم مجزأ ضمنيا يعاني من صراعات داخلية وصل فيها الحد الى مؤازرة ودعم القوى السنية لعصابات القاعدة وداعش وفسح القوى الشيعية المجال لإيران للتدخل وبشكل صارخ في الشأن الداخلي العراقي وتصفية حساباتها مع الخليج على اراضي العراق بحجة حماية المقدسات الشيعية وغض النظر من قبل سلطات الأقليم عن تمدد تركيا داخل الاراضي العراقية اضافة الى ترك ابواب الحدود مفتوحة على مصراعيها لمن هب ودب بسبب انشغال القوى السياسية بالصراع على الكعكة وسرقة موارد الدولة وتهريبها الى دول الجوار حتى بات العراق (خان جغان) كما يقول المثل.
ان الاعتداءات الايرانية والتركية المتواصلة على القرى والمدن العراقية الامنة صارت من المشاهد الاعتيادية التي لا يقوى العراق على ردها ولا يستطيع سوى استدعاء السفراء وتسليمهم رسائل الشجب والتنديد والتي باتت لا قيمة لها ولا تشتريها تلك الدول بفلس أحمر، بل ازدادت عنجهية واستهتار بأن إعتبرت تلك الاعتداءات احد حقوقها المشروعة للدفاع عن أمنها كما تدعي زورا وكذبا فصار العراق وكأنه احدى ملكياتها الهاصة وليس بلدا مستقلا له كيانه وسيادته وحدوده والسبب في ذلك يعود الى حل الجيش العراقي الأصيل وضعف وقلة خبرة وتعدد ولاءات الجيش الجديد الذي تشكل بعد عام ٢٠٠٣.
لقد اصبح الكرد اول المتضررين من ذلك القرار المشؤوم الذي سعوا بكل ما أوتوا من قوة لتمريره وصارت مدن كردستان الكبرى مثل اربيل ودهوك والسليمانية اهدافا سهلة للصواريخ والطائرات الايرانية والتركية وباتت مدن الاقليم الحدودية مستباحة بشكل علني من قبل ايران وتركيا وازداد سقوط الابرياء يوما بعد يوم دون ان تستطيع الحكومة الاتحادية حماية ابناء شعبها وإيقاف نزيف الدم ودون أن تستطيع سلطات الاقليم الرد حتى برصاصة واحدة ولو بالهواء لأنها لو اطلقت تلك الرصاصة فإنها سوف تكون رصاصة اعدامها، فلا يوجد جيش قوي يشكل سوراً منيعا ليحميها من تلك الاعتداءات السافرة فقد هدمت سلطة الاقليم ذلك السور بأيديها ونصبت لنفسها فخا قاتلا حين سعت جاهدة الى حل الجيش العراقي لا سيما وان سلامة وحماية الاقليم من واجبات الجيش الاتحادي الذي لم يخسر الاقليم حمايته فقط بل خسرته كل القوى السياسية العراقية بقرارها المتسرع الذي لم تفكر في عواقبه، فانعكس ذلك القرار سلبا على سلامة وأمن العراق ككل حتى صار البلد مستباحا بكل ما تعني الكلمة من معنى ومزق السلاح المنفلت خارطة الوطن الواحد واصبح البلد لقمة سائغة في فم دول الجوار دون وجود رادع يردعها او حارس قوي يحميه.
لقد كان الاجدر بتلك القوى ان تعمل على ابقاء الجيش العراقي وعدم حله لأي سبب كان وكان من الافضل اعادة تنظيمه وتسليحه بالاعتماد على خبرات قادته الذين كانوا مستعدين للاستمرار بحماية وطنهم بعد سقوط الطاغية لأن الولاء للوطن كان اقوى من الولاء للحاكم خصوصا بعد الاهانة الكبرى التي تعرض لها الجيش العراقي بسبب حماقة الدكتاتور في غزو الكويت عام ١٩٩٠ والتي أذلت الجيش وقادته فكان من الواضح ان الكثير من أولئك القاة قد تنفس الصعداء بسقوط دكتاتور لا يفقه بالأمور العسكرية شيء رغم انه كان يحمل على كتفيه اعلى الرتب العسكرية ويضع على صدره أرفع النياشين وكانت هناك فرصة ذهبية للقوى السياسية في رد الاعتبار للجيش وتعزيز الثقة لدى قادته ومنحهم الفرصة في حماية ارضه وحدوده ودستوره، اما من كان له دور في قمع وقتل ابناء الشعب فكان بالامكان احالته للمحاكمة لينال جزاءه العادل وفقا للقانون مع ابقاء النزيه والنظيف منهم وتغذية الجيش بضباط عراقيين جدد بغض النظر عن دينهم وقوميتهم وطائفتهم وفقا لقواعد الولاء للوطن لا للمسميات الاخرى ، أما حل الجيش وتهديمه واستبدال قادته بشخصيات موالية لأحزاب السلطة لا علاقة لها بالجيش لا من بعيد ولا من قريب ومنحها ارفع الرتب والمناصب فهو سبب الانتهاكات الصارخة والاعتداءات المستمرة التي يتعرض لها البلد اليوم.