صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الخوف من السلطة

قبل أيام كتبت عن كتلة (عزم وتقدم) اللتان تتزعمان المشهد السياسي السني العراقي، وتناولت مسيرتهم  بتحليل منطقي، دون التطرق الى شخصياتهم أو التقليل من شإنها، على إثر ذلك وصلتني العديد من الرسائل الخاصة من الناصحين المحبين ومن بعض المرجفين يدعونني الى الإبتعاد عن هذا النوع من الكتابة لأنه ربما يثير حفيظة الكتلتين.

بما أني أعرف الكتلتين جيداً ولديَّ تجربة طويلة معهم، فأني متأكد من أن كتاباتي لن تثيرهم، بل على العكس إن ما أتناوله من مواضيع وتحليلات لمسيرتهم يخدمهم ويكشف لهم بعض مكامن قوة  وضعف كليهما، يضاف إلى ذلك ما يجعلني أستمر في الكتابة بهذا النهج هو معرفتي المسبقة للكتل التي أكتب عنها، لديَّ شعور من أنهم يتقبلون الآراء المخالفة والمنتقدة لهم، وهم ايضاً ليس من النوع الذي يستخدم أسلوب تكميم الأفواه، وإن ما كتبته تفحصوه جيداً وإستنبطوا منه بعض الحلول، وهذا واضح من خلال اعلامهم الذي جاء لاحقاً لما كتبت.

على كل حال هذه الحالة دعتني وأرجعتني الى الماضي القريب، وبالضبط الى عصر السبعينيات مستذكراً وراصداً ظاهرة الخوف من السلطة.  منذ الطفولة وتحديداً في زمن البكر، والعراق يحاول النهوض من حقبة قاسم والأخوان عارف ، ظهرت  بوادرظاهرة الخوف من السلطة، وزادت حدتها تدريجياً وخصوصاً بعد حادثة ناظم گزار عام ١٩٧٣، فاستُهدفت الأحزاب الشيوعية والإسلامية السنية والشيعية والمنشقين من البعثيين، وبدأ الناس يتداولوا النكات التي تأطر ظاهرة الخوف من السلطة، احدى تلك النكات تتناول الرئيس البكر،  كان مدعواً يوماً ما لحضورإحدى المهرجانات الجماهيرية، وجاءَ متنكراً وجلس بين الحضور في وسط القاعة، وكان عريف الحفل يمجد الثورة ورئيسها المهيب الركن احمد حسن البكر، فينهض الجميع بالتصفيق مع ذكر الأب القائد، إلا البكر يبقى جالساً غير مصفقاً، فما كان من الشخص الذي يجلس بجانبه إلا أن ينبهه ويقول له بالعامية( صفج صفج لا …….. أمك).

انتهى حكم البكر مع إستلام صدام السلطة، وعقب إنتهاء حادثة قاعة الخلد في علم ١٩٧9، وصل الخوف من السلطة لدى العراقيين مدى بعيد جداً، وظهرت التصفيات والملاحقات لكل من يتجرأ ويعارض مثلث السلطة( الثورة وصدام وحزب البعث)، وأصبح الناس يخافون التحدث وانتقاد الحكومة حتى في  داخل بيوتهم، خوفاً من أن يقوم أطفالهم بالتحدث خارج البيت وينقلون لأصدقائهم ما يتكلم به الوالد أو الأخ الكبير، فيتسرب الكلام ويقع الأب في فخ السلطة، وأنتشرت مقولة ( الحايط له اذان)، حالة رعب وخوف جعلت من العراقيين في ذلك الوقت مضبوطين من حيث عدم التعرض علناً ولو بالإشارة لرموز الثورة، وهذا يشمل حتى اعضاء حزب البعث، فمن كان منهم ينتقد رموز الثورة ولو بنكته عابرة، يتفاجأ بأن جليسه سجل له كاسيت وأُرسل التسجيل الى الأمن والمخابرات. بقى هذا الوضع طوال الثمانينيات تزامناً مع  حرب الثمان سنوات وما بعدها، وذهب الآلاف ضحايا النكتة والكلمة الغير مقصودة وغيرها من التهم التي كان يواجه بها المواطن في ذلك الوقت. واستطاعت الحكومة ان ترسخ سياسة الراي الواحد، وهو الداعم للثورة مهما كانت أخطائها، وألتزم الشعب خوفاً من عقاب السلطة.

عام ١٩٩٠ غزا العراق الكويت، وأصبح العراق في مواجهة عسكرية أمام ٣٢ دولة من بينها دول عظمى، وفي عام ١٩٩١ كانت حكومته  معرضة للسقوط، لولا أن بوش الأب ودك تشيني وكولن باول وشوارزكوف كانوا كرماء مع صدام وأوقفوا قوات التحالف عند أم قصر وسفوان، وسمح لصدام باستخدام طائراته المروحية  لاخماد التمرد في معظم المحافظات الجنوبية والشمالية. خلال فترة احتلال الكويت وتحريرها وهي من ٢-اب لغاية منتصف ١٩٩١ تعالت الأصوات المعارضة لمثلث السلطة( البعث وصدام والثورة)، وتجاوزت الناس في عموم المحافظات الخطوط الحمراء، وأنتقدوا الحكومة بالعلن ولم يستثني من ذلك حتى صدام، لسببين؛ أولهما إن حماقة الكويت أرجعت العراقيين مرة ثانية الى الحروب والدمار والمستقبل المجهول ، وثانياً لأن الشعب إعتقد إن اميركا وحلفائها ستتخلص من حكومة صدام وتأتي بحكومة جديدة، لكن ذلك لم يحدث، وبدأت مرة أخرى  مرحلة جديدة من تكميم الأفواه.

في التسعينيات وبعد هزيمة الكويت، حاولت الحكومة تغيير سلوكها، وأوحت للجميع من أن التعددية الحزبية ستعود للعراق وستكون هناك حرية الصحافة، لم يحدث من ذلك شيء، وبقت تماطل في تنفييذ الوعود، وفي نفس الوقت حاول عدي صدام من خلال الصحف التي كان يديرها وأهمها (بابل ونبض الشباب) ، السماح لبعض الصحفيين في تجاوز الخطوط الحمراء وانتقاد الحكومة، وأستغل العديد من الصحفيين فرصة الحماية التي يوفرها لهم عدي، فكتبوا بحرية ووصل انتقادهم أعلى مفاصل الحكومة والدولة والسياسات العامة، لكن حماية عدي لم تكن كافية، فوقع الكثير منهم في فخ انتقاد السلطة، ودخلوا السجن ومنهم الصحفي الساخر داوود الفرحان، وبعضهم  نفذَ بجلدهِ وغادرَ العراق.

عادت سيطرت الدولة من جديد بعد توقيع مذكرة التفاهم مع الأمم المتحدة عام ١٩٩٦، وهي مذكرة  النفط مقابل الغذاء والدواء الشهيرة، لم يعد هناك ما يجعل المواطن  يشتكي من نقص في المواد الغذائية والدوائية،  وبدأت الحكومة شيئاً فشيئاً تجد البدائل وتقاوم الحصار، وتعقد الاتفاقيات مع الدول المستعدة لخرق الحصار، وتستعييد قوتها شيئاً فشيئاً، ترافق مع ذلك عودة خوف المواطن من السلطة من جديد وتجنب انتقادها علناً، لكن ذلك لم يستمر طويلاً.

مع اقتراب إحتلال لعراق ، وبالذات في أعوام ٢٠٠٢ وبدايات ٢٠٠٣، بدأ المواطن العراقي من جديد يتحدى الحكومة  وصدام  وبلا خوف، وبدت الحكومة ضعيفة غير قادرة على ممارسة سياسة العصا الغليضة التي تميزت بها في السابق، وإستعاضت عن ذلك، بحالة التوسل الحكومي والتقرب من المواطنين من أجل الحفاظ على الُلحمة الوطنية لمواجهة الاحتلال المحتمل، فأطلقت سراح جميع السجناء والمعتقلين السياسين وغير السياسين، وأصدرت عفواً عاماً عن معظم أركان المعارضة في الخارج.

وشهدت هذه الفترة إنفتاحاً  لشهية المواطن بالكلام الصريح المُستهدف للحكومة بكل أركانها. ولم يكن هناك رادعاً لهم، وأصبح الناس في الأسواق والمناطق العامة ينتقدون صدام، وتوقف تقرير الرفيق وشرطي الأمن ولو مؤقتاً، على أمل أن يفشل مشروع أميركا لإحتلال العراق وتعود السلطة من جديد لتصفية الحسابات مع من تحداهم، لكن ذلك لم يحدث، ونجى كل من إنتقد وتهجم على مثلث السلطة (الثورة والبعث وصدام).

الإنفتاح الكبير جاء بعد احتلال العراق عام ٢٠٠٣، وأصبح الناس أحراراً بما ينتقدوا، لم تعد هناك خطوط حمراء، ولم تعد هناك أسرار، إنكشف كل شيء،وبان ما في الخفاء، ماكان بالأمس سراً أصبح اليوم مباحاً. وسادت ظاهرة القتل على الهوية وليس على الكلمة، وظهر الأرهاب والمليشيات بكل الوانها، وهذا أخطر بكثير. الاعلام تنوع وتفنن في النقد، فهناك من ينتقد فترة صدام، وهناك أيضاً من ينتقد فترة ما بعد الإحتلال والقادمين معه.وبقى هذا الوضع لغاية ٢٠١٤، وأهم ممارسات تلك الفترة الأعلام الحروالتظاهرات والإعتصامات، التي كانت تحدث في مختلف ارجاء العراق.

وبعد ظهور داعش وهزيمته في عام ٢٠١٧، ظهرَ نوع جديد من تكميم الأفواه، الخوف في الدرجة الأولى ليس من الأجهزة الامنية والحكومية، لكن من المجاميع المسلحة وظل الدولة، الذين يستطيعون منع من يكتب ضدهم بمختلف انواع الطرق، ومنها الإختطاف والقتل والتغييب وتلفيق التهم. فنتج عن ذلك نقد حذر للحكومة ونقد شبه ممنوع للمجاميع المسلحة. وفي نفس الوقت تجد هناك من ينتقد بحرية، ولا يقف أمامه رادع، لكن هـؤلاء أما يكونوا مسنودين من جهة سياسية قوية، أوممن يتكلمون وينتقدون من خارج أسوارالوطن.

أخيراً نقول الكلمه الحرة لا تخرج إلا من شفاه الأحرار.

أقرأ أيضا