لا أحد يجيب على سؤال العراقيين عن الاسباب التي دعت القوى الشيعية الى منح حزب الدعوة منصب رئاسة مجلس الوزراء بعد انتخابات 2005، على الرغم من انه لم يحصل سوى على 15 مقعداً، وهو اقل بكثير عن ما حصلت عليه بعض الكتل المنضوية في الائتلاف الشيعي.
وليس هناك من يستطيع الكشف عن الظروف والاسباب التي دعت تلك الكتل الى تسليم القيادة للدوعويين، الذين بدورهم دفعوا الداعية ابراهيم الجعفري لرئاسة الوزراء.
لعل الأمر بحاجة الى التوقف عنده لبعض الوقت..
البعض يروج لحزب الدعوة على أنه “أول حزب إسلامي شيعي عالمي، يمتلك ايديولوجيا شاملة في العقيدة والفكر والثقافة والسياسة والتنظيم والسلوك الجمعي والفردي، ويمتلك منهجا في إدارة المجتمع واستلام السلطة وقيادة العمل السياسي”.
ولقد يكون توصيف الحزب بهذه المقولة يتضمن مبالغة كبيرة، وتضخيما بدون معنى، ذلك ليس من الموضوعية ان يكون حزب اسلامي متطرف في عقيدته، وفي أهدافه، ان نطبع عليه صفة العالمية. المعروف انه اول حزب اسلامي في الحركة الشيعية، غايته معارضة نظام البعث في العراق، وحتى التصدي له.
لكن المعروف ايضاً ان اكبر دواعي تكوينه هو الوقوف في وجه حركات اليسار والتوجهات العلمانية التي بدأت بالظهور القوي في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وهو ما أكده فيما بعد امينه العام نوري المالكي وبعض قيادت الحزب، وان الحزب ظل متخفياً خلف واجهات رجال الدين لما يقارب العشرين سنة غير قادر على الإعلان عن نفسه، متراجعاً امام اعتراضات الفقه المذهبي الذي يرى ان التحزب مناقض للشريعة الشيعية، وان الشريعة تقتضي المضي في الاعتكاف عن العمل الدنيوي الى حين ظهور الامام الغائب، ولم يظهر الحزب بطابعه السياسي والحزبي إلا حين دعمه شاه ايران في سنة 1975 لأسباب سياسية معروفة، ياتي في مقدمتها اشاعة الاضطرابات في وجه الحكم القومي البعثي.
والشاهد ان حزب الدعوة يعد تأريخ ميلاده الحقيقي هو السنة التي استطاع الخروج من تحت عباءة رجال الدين وهي السنة نفسها التي تلقى فيها دعمه من شاه ايران.
على أية حال، ليس في قصدي الخوض بتأريخ حزب الدعوة ودواعي تكوينه، ومراحل تطوره، ولا اريد ان اتصدى للتوصيف السابق حول امتلاكه ايديولوجيا شاملة في العقيدة والفكر والثقافة والسياسة والتنظيم والسلوك الجمعي والفردي، ويمتلك منهجا في إدارة المجتمع واستلام السلطة وقيادة العمل السياسي”، فقد اثبتت تجربة اكثر من اربعة عشرة سنة على مدى الخيال في ذهن اولئك البعض.
وبالعودة الى التساؤل الاول، فأنه لم تمض سوى اقل من سنة واحدة على رئاسة الجعفري حتى جرى تنحيته عن المنصب تحت ضغوط الكتلة الكردستانية وكتلة اياد علاوي، وحتى قبل ان يتسنى له تشكيل حكومته، بسبب ممارساته الطائفية التي تبرم منها اهل السنة، وسلوكه العرقي الذي اثار استفزاز الاكراد، ولم تستطع السفارة الاميركية التغافل عن تلك الضغوط ودواعيها، فجرى استبداله بالمالكي وسط استغراب الكثير من القوى السنية والشيعية على حد سواء، ووسط دهشة المالكي نفسه، ذلك ان ثمة دعويين آخرين داخل حزب الدعوة، وحتى قادة شيعة من خارجه، يرون انهم احق بالمنصب من المالكي، الذي لم يكن يشغل سوى منصب نائب رئيس لجنة اجتاث البعث، ولم يكن معروفاً في الشارع العراقي السني والشيعي بوصفه قيادياً بارزاً، لا في تجربته الدعوية ولا بتاريخه، ما يجعله مؤهلاً لاحتلال المنصب، وظهر فيما بعد ان السفير الاميركي “خليل زاده” هو الذي استله من وسط الظلمة ليكون رئيساً لوزراء العراق بعد التنحي القسري للجعفري، دون ان تتكشف كل اسرار ذلك لحد الان، ولربما يأتي وقت فتسلط الأضواء على كل تلك الاسرار، لاسيما ان اميركا كانت المتحكم الاول باوضاع العراق في ذلك الوقت، فضلاً عن النفوذ الايراني الذي بدا متنامياً الى الحد الذي لم تستطع اميركا ان تتغافله.
ولقد اهتزت اركان حزب الدعوة والتحالف الشيعي بصورة جلية، واصابهم الهلع جراء انتخابات سنة 2010، عندما حصلت قائمة اياد علاوي على مقاعد فاقت مقاعد قائمة دولة القانون، التي يقودها رئيس الوزراء نوري المالكي، والتي كانت تضم المؤيدين للمالكي وأغلبهم من حزب الدعوة الذي انضموا اليه بعيد انقسام الائتلاف العراقي الموحد.
وبدا للدعويون ان ثمة رياحاً غير متحسب لها راحت تهدد قواعد الاستراتيجية الدعوية، وينبغي التصدي لها قبل فوات الاوان، وظهرت مخاوفهم من مشاعر العراقيين الذين كانوا قد صدقوا لعبة الانتخابات الديمقراطية، فمنحوا أصواتهم لاياد علاوي، الشيعي الليبرالي، وقائمته المختلطة التي ضمت الكثير من الجماعات السنية، وعلى الأثر تنادت الجماعات الشيعية الاخرى، وعلى رأسها قائمة الائتلاف الوطني العراقي التي ترأسها ابراهيم الجعفري، احد قادة حزب الدعوة، التي لم تدخل الانتخابات ضمن قائمة ائتلاف دولة القانون، والتي كانت تضم المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم، والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، والمؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي، وتيار الإصلاح الذي اسسه ابراهيم الجعفري بعد منعه من تولي رئاسة الوزراء مجددا، لقد تنادى الجميع الى الانضمام سريعاً داخل تحالف شيعي جديد اطلق عليه التحالف الوطني، لتشكيل الكتلة الاكبر داخل مجلس النواب، بناءً على توجيهات القيادات الايرانية التي لا ينفيها القادة الشيعة، ولعلها كانت اوامر اكثر من كونها توجيهات.
والكل يعرف الطريقة المتلوية التي اعتمدها التحالف الوطني في تفسير الكتلة البرلمانية الاكبر، التي جرى التشبث بها من اجل سلب علاوي حقه في رئاسة الوزراء، وبدواعي عدم خروج السلطة عن دائرة الشيعة.
وأصدرت المحكمة الاتحادية، التي جرى تعيين رئيسها وغالبية اعضائها من قبل المالكي بدون موافقة مجلس النواب العراقي او التصويت عليهم، تفسيراً جديداً للمادة 76من الدستور المتعلقة بالكتلة الاكبر على انها تعني ” الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات، من خلال قائمة واحدة دخلت الانتخابات باسم ورقم معينين، وحازت على العدد الأكثر من المقاعد، أو الكتلة التي تجمعت من قائمتين أو أكثر ثم تكتلت بكتلة واحدة ذات كيان واحد أيهما الأكثر عددا”.
وفي ضوء ذلك قضت المحكمة باطلاق رصاصة طائشة في قلب عملية الانتخابات، وجعلت من التنافس الانتخابي امراً مفروغاً منه وبدون مغزى. إذ لم يعد هناك معنى لقيمة القائمة الفائزة الاولى، وهو ما درجت عليه كل الانتخابات في مختلف نظم دول العالم.
ويبدو ان فتوى المحكمة الاتحادية، القاضية بابعاد علاوي وقائمته الليبرالية، لم يكن مصدرها عوامل داخلية فقط، لكن اميركا وايران هم من تدخلا وحسما الامر لصالح حزب الدعوة والمالكي، فقد ذكر علاوي، في ما بعد، في لقاء صحفي انه خلال الازمة، تلقى اتصالاً من الرئيس السوري بشار الاسد يطلبه للحضور الى دمشق، وانه، اي علاوي، سافر الى دمشق بصحبة عشرين قيادياً في قائمته الانتخابية، وان الاسد قال له امام الجميع، وبحضور شخصيات قيادية سورية، بان ايران ترفض توليته رئاسة الوزراء، وانه ذاهب في زيارة الى ايران وينتظرون ردك، وعندما سأله علاوي عن موقف اميركا، اجابه الرئيس السوري بان اميركا ترفض ايضاً، وان اميركا وايران متفقان على تولي المالكي للولاية الثانية.
ولم تنكر جميع الجماعات الشيعية طبيعة الضغوطات التي تعرضو لها من قبل ايران، في ترجيح كفة المالكي على اياد علاوي، او اي قيادي شيعي آخر، وهو ما اعترف به الكثير من قيادات تلك الجماعات في ما بعد.
اما الاكراد فانهم اظهروا براغماتية فائقة، واضحة، وبدون تردد، عندما اعلنوا صراحة ما معناه انهم مع الذي يدفع اكثر..!
وقد ظهر فيما بعد ان المالكي قد منحهم وعوداً خلابة لفائدة الإقليم على حساب العراق، بدون علم شركاؤه، وخارج أطار الدستور، وفي مقدمتها مسألة السيادة على كركوك، وكل ذلك في سبيل دعمه وتأييده للفوز برئاسة ثانية.!
وفي انتخابات 2014 كانت الاجواء مشحونة ضد المالكي، وكثرت مطالبات القوى السنية والكردية، وحتى بعض القوى الشيعية، بعدم تسليمه ولاية ثالثة، على الرغم من فوز قائمته الانتخابية “دولة القانون” بما يقارب 95 مقعداً في مجلس النواب، وهو عدد كاف للاستمرار في ولاية ثالثة لو لم يتم التلاعب بتفسير المادة 76 من الدستور بالطريقة التي جرى تفسيرها، إن كان في ما يتعلق بكتلة التحالف الوطني الشيعي ام في ما يخص حزب الدعوة.
وبغض النظر عن التزييف الذي مارسه المالكي في تلك الانتخابات، باستخدام وسائل غير مشروعة لكسب اصوات الناخبين، لاسيما فضيحة توزيع الاراضي الوهمية والضغط على ابناء القوات المسلحة لمنحه اصواتهم، فضلاً عن الاحاديث الطويلة عن عمليات تزوير حاسمة شهدتها صناديق الاقتراع، وهو ادعاء تبنته الكثير من القوى السياسية، فان غليان الشارع العراقي، السني والشيعي، بسبب سقوط الموصل بيد داعش، وما تكشف عن اوضاع الجيش العراقي وقادته، والفضائح التي انتشرت عن الفساد في كل مرافق الدولة، فان ذلك كان داعياً للقوى الشيعية، وبالتحديد حزب الدعوة نفسه، الى التخوف من تحرك شعبي يفقدهم موقع التصدر في حكم العراق، فضلا عن تحرك اقليمي، متمثلاً بايران، ودولي متمثلاً في اميركا، لتفادي اضطرابات متوقعة داخل العراق قد لايمكن السيطرة عليها في حالة استمرار المالكي في رئاسة ثالثة، فتنازل المالكي عن الترشح قسراً، وبما يذكر بتنازل الجعفري.
ولعلها مفارقة تثير السخرية ان يعجز المالكي من تشكيل حكومة يرأسها لولاية ثالثة، على الرغم من فوز قائمته في انتخابات 2014، بوصفها القائمة الفائزة الاولى، في ضوء البئر الذي حفره لعلاوي، ولعله استعجل الامور في انتخابات 2010 ولم يتحسب للمستقبل.!
لكن حزب الدعوة نجح مرة ثالثة في اختطاف منصب رئاسة الوزراء، وقيادة التحالف الشيعي، وسط اجواء مشحونة باستياء كل القوى المشاركة في الانتخابات، وفي مقدمتهم القوى الشيعية نفسها، التي كانت تشعر بالغبن، ولعله الاستفزاز، من تولي حزب الدعوة رئاسة الحكومة مرة ثالثة، متمثلاً بتسليم رئاسة مجلس الوزراء الى حيدر العبادي.
وعلى الرغم من ان التنازل عن الترشيح جاء نتيجة رؤية اميركية ايرانية اكثر منها رؤية عراقية خالصة، او حتى إرادة دعوية معينة، فقد وقع في ظن الكثير من القوى السياسية، وبضمنها القوى الشيعية، ان اجبار المالكي على الابتعاد، ومجيء العبادي، سيؤدي بالضرورة الى انقسامات وانشطارات في حزب الدعوة يضعف موقف الحزب داخل التحالف الشيعي وفي الشارع العراقي، وذلك ما تتمناه كل الحركات والتيارات الشيعية على حد سواء، لكن الحزب تدارك هذا الامر، مفضلاً عدم تدمير الساحة الشيعية العراقية واضعاف فرص استمرار التحالف في الحكم المركزي، فقرر المالكي تجرع كأس الهزيمة الذي اعده له خصومه واصدقاؤه، واضطر لاعلان سحب ترشحه، لاسيما بعد حصوله على ضمانات أن البديل سيكون أحد الدعاة من حزب الدعوة.
بعد مضي ما يقارب السنة على تسنم العبادي منصب رئيس مجلس الوزراء، وما يمكن تسجيله من ملاحظات على ادائه، وقياساً على كل ما تكشف حتى هذه الساعة، يمكن القول ان تقديرات البعض كانت تفتقر الى القدرة على الاستقراء، وتوقعات البعض الاخر كانت مجرد ضرب آمال املتها انحسار الخيارات والخضوع للامر الواقع، ولعلها كانت عملية مفاضلة بين السيئ والأسوأ.
كان متوقعاً ان مجيء العبادي بديلاً عن المالكي سوف لن يغير شيئاً في الوضع العراقي، لاسيما ان اختيار حزب الدعوة للعبادي جاء مدروساً بشكل دقيق من قبل قيادة الحزب، ذلك ان العبادي يعد من حمائم الحزب وليس من الصقور، وامكانية السيطرة عليه وقيادته من قبل الصقور في متناول اليد، الامر الذي من شأنه ان يؤدي الى اطمئنان الحزب على عدم قيام العبادي بكشف ملفات فساد أعضائه، واسرار تورط الحزب في الكثير من القضايا الدولية والإقليمية، بالإضافة الى استمرار الحزب في السياسة التي تحقق اهدافه دون تمكين العبادي من التلاعب باستراتيجيته النهائية، ودون اجراء اية تغييرات جذرية حقيقية، إن كان في بنية النظام السياسي العراقي، ام في بنية النظام الحكومي.
ولعل من اكبر الاخطاء التي وقعت بها المجموعات السياسية، سنية وشيعية، وحتى الكردية، والتي ادت الى تشكيل حكومة العبادي، انهم كانو يرون ان ازمة النظام والحكومة تكمن في شخصية المالكي نفسه، وانحيازاته الطائفية، وضيق افقه.
لا تدرك الكثير من القوى المتجاذبة على السلطة في العراق، وحتى الكتل الشيعية نفسها، ان ادارة الحكم وقيادة السلطة في اي نظام سياسي تتطلب وجود قائد لا يتصرف بهدى منابعه الفكرية الخاصة وبخيالات انتمائه السياسي، والعبادي هو رجل من حزب الدعوة نشأ وتربى في احضانه، وحزب الدعوة معروف عنه بانه حزب ايديولوجي وعقائدي قبل ان يكون حزباً سياسياً، وليس بامكان الدعويين انكار هذه الحقيقة مهما حاولوا التعمية عليها، فحزب الدعوة الذي تشكل في الخمسينات من القرن الماضي طرح في اول ادبياته “تأسيس منظمة حديثة لنشر ايديولوجيا الحزب وتطبيق رسالته، والعمل على وضع الاسس لمفهوم شكل الحكم الاسلامي بصفته الهدف النهائي للحزب”، ولم يتردد منشورهم الاول عن الافصاح ان قضيته الرئيسة تتمثل في خلق ايديولوجيا تنافس الماركسية والعلمانية.
وحمل الحزب على عاتقه مهام “اقامة حكومة اسلامية وتأسيس جهاز حاكم عندما تتهيأ الظروف”، وفي اشارة الى ازاحة دور الامام والمجتهد عن طريق الحزب، فان حزب الدعوة يؤكد “ان اعضاءه هم دعاة الله، وان الهداية يجب تأتي من الله ورسله وليس من البشر”.
ولعل ما حدى بالكثيرين الى الظن ان المشكلة تكمن في شخصية المالكي، هو سوء تقدير بالغ يكشف عن مدى البؤس السياسي الذي تتحلى به غالبية القوى العراقية، التي يصعب وصفها بالقوى السياسية، والتي تتصدر واجهة العمل السياسي في الوقت الراهن، وافتقارهم الى تراكم التجربة التي تساعدهم على مد نظرهم الى ابعد من موطىء اقدامهم، وتلك حقيقية قابلة للتصديق في ضوء كل ما جرى منذ سنة 2003 ولحد الان، وفي ضوء موافقة تلك القوى على تشكيل حكومتي المالكي بالطريقة التي جرت، ومن ثم حكومة العبادي بالطريقة نفسها.
لم تستفد تلك القوى، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، سنية ام شيعية، من الشواهد السيئة التي اوجدتها معايير المحاصصة الطائفية في حكومتين سابقتين، بل ان مصالح تلك القوى المؤقتة هي من سمحت لتلك المعايير بالتمدد والتوسع على حساب مصالح الارض والوطن والشعب، وبالتالي على حساب مستقبلها السياسي، الامر الذي انتج نهجاً مريضاً متراكماً في ادارة الدولة والمجتمع زاد من الاضطراب الهائل في مرافق الدولة من جهة، وقطع ما تبقى من حبل السرة بين تلك القوى من جهة اخرى.
وعلى الرغم من المحاولات البائسة في طبع مبدأ تقاسم السلطة بطابع المشاركة السياسية، فقد فشلت كل تلك المحاولات في مواجهة حقيقة ما يجري على الارض امام العراقيين وامام العالم، فلم تعد هناك شكوك بزيف شعار المشاركة السياسية، ولم يعد خافياً على احد ان المقايضات والصفقات هما من المعايير الابرز في تشكيل حكومات العراق بعد 2003، والقاعدة الرئيسة التي تستند اليها تلك المقايضات والصفقات هي المصالح الشخصية والفئوية، التي عبرت عن نفسها بالمحاصصة الطائفية والعرقية بين الكتل المختلفة، وحتى بين قوى الطائفة الواحدة والعرق الواحد، وذلك ما تبدى ظاهراً في تقسيم المناصب بين الجماعات الشيعية والسنية والكردية، وطريقة توزيعها.
وظلت المقاصد الحقيقية تتخفى خلف شعارات فضفاضة تفوح رائحتها عند كل هزة تضرب مصالح تلك القوى، وبدت الدولة العراقية كأنها سفينة توشك على الغرق تقتضي بتلك القوى استخلاص كل ما يتسنى منها قبل ان يلتهمها قاع البحر.
وليس هناك شك في ان تلك المقايضة، وتلك الصفقات، جرت تحت غطاء تغافل متعمد لاثارها السلبية، الامر الذي ادى الى استفحال فساد منقطع النظير لم يشهده تأريخ العراق في اسوأ حالاته، ولم يفت على حزب الدعوة حقيقة تلك المقايضات والصفقات فعمل على تشجيعها، وشرع الابواب امام كل من يريد الانتفاع منها، ودافعه الرئيس هو الاحتفاظ بالسلطة، لحين ان “تتهيأ الظروف”, ولحين تقلب الاوضاع، فسيتأثر بكل المنافع ويقضي على الخصوم.
ذلك الدافع يمكن عده بالاستراتيجية التي اعتمدها حزب الدعوة طوال السنوات الماضية، وبما يمكن وصفه بسياسة احتواء شاملة، على ان يعقبها سياسة ازاحة كاملة، لكل القوى المناهضة للعقيدة الدعوية التي يبشر بها حزب الدعوة وبضمنها الجماعات الشيعية نفسها.
ومن الواضح ان الاستراتيجة الرئيسة التي تبناها حزب الدعوة تدور حول محورين رئيسين:
المحور الاول.. يقوم على تنظيم العلاقة بين الدعاة وباقي الفرقاء الشيعة، ومن ثم تحشيد الشارع الشيعي خلف القوائم الشيعية، على الرغم من تنامي التنافر بينهما.
وعلى هذا الاساس تجري فصول المحور الاول خارج حجرة التحالف الشيعي، وهو محور يقوم على تحفيز مشاعر الطائفة، وتفعليه يتطلب ان تتكلف به كل القوى الشيعية، ومفاده ان الحكم في العراق لابد ان يكون اسلامياً، ومناهضاً للعلمانية بكل اشكالها، انطلاقاً من القاعدة الايديولوجية التي تشكل عليها الحزب، القاضية بنشر الرسالة الاسلامية وتكوين انظمة حكم اسلامية، والحكم الاسلامي في العرف الدعوي ان يكون شيعياً، والسطلة لاينبغي، في كل الاحوال، ان تخرج من ايد الشيعة، على قاعدة “ما ننطيها”، بوصفهم اكثرية سكانية يحاولون تغليفها بطابع الاغلبية السياسية، وهو محور تدعمه اسباب تأريخية ودواعي سوسيولجية لكل الجماعات الشيعية، على الرغم من اختلاف منابعها الفقهية والعقيدية.
ومن هذا المحور ولد الائتلاف العراقي الموحد في انتخابات سنة 2005، والتحالف الوطني في انتخابات سنة 2010، ولا يزال مستمراً حتى الان.
والمحور الثاني: يتم حسمه داخل حجرة التحالف الشيعي، ويتمثل بهيمنة حزب الدعوة على كل القوى الشيعية، عن طريق السيطرة على التحالف الوطني، والانفراد بقيادة السلطة في العراق الى ابعد مدى، والى ان تقتنع كل الجماعات الشيعية باحقيته في القيادة، وتصبح امراً محسوماً في اية انتخابات مستقبلية.
وقد حاول حزب الدعوة المضي في استراتيجية احتواء كل الجماعات السنية والشيعية على حد سواء، وكانت الخطوة الاولى تتطلب من المالكي تشتيت قوى الجماعات السنية واستقطاب من يمكن ان يقع فريسة مطامع شخصية. خصوصاً بعد ان تمكن الدعويون من احتواء بعض قادة السنة في وعاء المصالح والمكاسب، وازاحة البعض الاخر منهم عن طريق حياكة المؤامرات ضدهم وابعادهم خارج البلاد.
ولعله نجح في هذا الامر الى حد كبير حين تمكن من شراء بعض القيادت السنية وتحييد البعض الآخر وبث الاضطرابات في محافظاتهم، لاسيما محافظات الانبار والموصل وصلاح الدين، التي تعد من اكبر القواعد التي تعتمد عليها القوى السنية في الانتخابات النيابية.
اما بالنسبة للقوى الشيعية، فان الحزب اعتمد اسلوب اضعاف تلك القوى وتفتيها، على امل تذويبها تحت قيادته، ولعله نجح في هذا الامر ايضاً اذا ما تذكرنا خروج منظمة بدر من خيمة المجلس الاعلى بقيادة الحكيم واعلانها استقلالية زائفة كونها كانت تميل براسها نحو المالكي، ثم انقسام المجلس الأعلى الى جماعتين بدى عليهما التنافر في وقت مبكر، فضلاً عن خروج بعد الجماعات من تحت خيمة الصدريين والمضي بتشكيل جماعات تسعى الى النمو والتوسع بالاقتراب من الدعويين مثل العصائب.
ووقع في ظن قيادات حزب الدعوة بانهم اذا تمكنوا من تحقيق النجاح في الخطوة الاولى، فانهم سيكسبون تعاطف الجمعات الشيعية المتطرفة الاخرى، الامر الذي سيقوي عضد الحزب ويدفعه الى مقدمة القوى الشيعية في المناداة بضرورة عدم خروج الحكم من دائرة الشيعة، والظهور بمظهر الحريص على مكاسب الطائفة، وحينذاك ستبدأ الخطوة الثانية في صهر القوى الشيعية الاخرى داخل التحالف في ايديولوجية الدعاة, باعتماد مبدأ الازاحة التدريجية على غرار التجربة الايرانية، وبالسير على خطاها، في طريقة التخلص من خصوم الايديولوجية، عندما انتصرت كل القوى المعارضة لحكم الشاه محمد رضا بهلوي، ثم جرى احتكار الثورة من قبل رجال الدين المحافظين وتصفية كل المعارضين لرؤية الخميني، وبالتالي اصبحو خصوما ينبغي القضاء عليها، بضمنها القوى اليسارية والليبراية ومنظمة مجاهدي خلق التي شاركت في النضال ضد الشاه واسقاط نظامه.
لكن المالكي لايدرك ان التأريخ لايتكرر، ولا يتشابه، لانه لو تكرر في المرة الاولى سيصبح ملهاة، ولو تكرر في المرة الثانية سيغدو مأساة حسب قول العم “ماركس”.
ويبدو ان حزب الدعوة استعجل في استلهام التجربة الايرانية، وراح يتحرك بين اسلاكها الشائكة في وقت مبكر، وقبل ان تنضج الظروف في العراق، مدفوعاً بتكرار الـتاريخ، فكانت هناك اشارات واضحة، لاسيما في السنة الاخيرة من حكم المالكي، بانه مقبل على تغيير استراتيجية الاحتواء والتوجه الى مبدأ الازاحة، التي تلقى الكثير من التشجيع لدى بعض القوى الشيعية المتطرفة، وهو ما تم وصفه بأن المالكي ينحو منحاً ديكتاتورياً في ادارته للسلطة، وفي تعامله مع بعض القوى الشيعية المتحالفة معه.
وبالعودة الى البديل الدعوي للعبادي يبرز السؤال الذي صار يشغل عقل العراقيين: هل العبادي قادر على التغيير الذي وعد به؟ ولربما ينبغي صياغة السؤال كالاتي: هل كان بوسعه ان يتحرر من تربيته الدعوية ويمتلك ارادة التغيير؟
في الجواب على اصل السؤال ينبغي معرفة ان العبادي انتمى لحزب الدعوة وهو في سن الخامسة عشر من العمر، وذلك يؤشر الى ان دواعي الانتماء كانت عاطفية وتحت ضغوط تربية الطائفة، وليست عن طريق فهم متجرد وادراك سياسي واعي، بمعنى انه تشرب فكر الدعوة وتعود على سلوكيات الحزب بطريقة يصعب الفكاك منها، فعمره الدعوي الذي يقارب الخمسين سنة، تجعل كل مشاعره محاصرة بتاريخ طويل، من شأنه ان يجعل الفكر والسلوكيات تشكلان هوية وجودية وتحيل الفعل الانساني الى ممارسة لا ارادية منغلقة على نفسها، ومتخاصمة مع حركة الزمن.
هذا الامر يعني انه لم يكن صعباً التنبأ، على نحو يخلو من التفاؤل، بخطوات العبادي، في ما إذا كان قادر على إتخاذ خطوات بمعزل عن مراجع الدعويين، لاسيما اذا عرفنا انه كان يحتل منصب المستشار الاول للمالكي، ويشارك في صناعة الكثير من سياسات المالكي، الامر الذي يتيح لنا القول ان رؤيته لسياسة الحكومة لا تختلف كثيراً عن رؤية المالكي، حتى انه دخل الانتخابات الاخيرة متحمساً لطروحات المالكي حول الاغلبية السياسية، ومندفعاً لبرنامج حزب الدعوة الانتخابي الذي نادى به المالكي نفسه.
وواقع الامر، ان أساليب حزب الدعوة، التي جرى في ضوئها ادارة البلاد لم تتغير، وفي ظل إصرار الحزب على ان القيادة ينبغي ان تبقى محصورة برؤيته، “المحور الثاني”، على الرغم من الاخفاقات القاتلة التي تعرضت لها البلاد، ما يدعو الى الاعتقاد انه الشرط الذي وضعه الحزب بأن يكون البديل عن المالكي هو شخصية من حزب الدعوة حصراً، مقابل ان يقوم المالكي بسحب ترشيحه.
ويبدو الامر معقداً للكثير من العراقيين ان يكون العبادي رئيساً لوزراء كل العراقيين، في الوقت الذي يكون واقعاً تحت هيمنة حزبه ورجالاته، ومقيداً بتحالافاته، وان يكون قادراً على تنفيذ مشروعه الاصلاحي، وما يخص مكافحة الفساد على قاعدة “من اين لك هذا”، خصوصاً في ما يتعلق بتحقيق الموازنة السياسية في مناصب الحكومة، التي يحتل أكثر من ثلثها اعضاء من حزب الدعوة، غالبيتهم متهمون بالاثراء غير الشرعي ومتورطون بصفقات فساد معروفة لدى كل العراقيين.
اي.. ان يحتل العبادي موقعاً يكون قيادياً في حزب الدعوة وخاضعاً لسطوة المالكي الذي يحتل موقع امينه العام، في الوقت الذي تكون سلطة العبادي الإدارية مقابل سلطة المالكي الحزبية، ثم ان يكون قيادياً في التحالف الوطني الذي يرأسه الجعفري، في الوقت الذي ينبغي ان الجعفري موظفاً لدى العبادي بوصفه وزيراً للخارجية، هذا الامر لابد ان يذكر العراقيين بالرئيس المصري الاخواني محمد مرسي، وهذه التعقيدات هي من كانت وراء المطالبات المختلفة للعبادي بتجميد عضويته في الحزب ليتسنى له ممارسة صلاحياته بالشكل الامثل، وهي مطالبات واقعية تستمد واقعيتها من حاجات الشعب العراقي وحل ازماته العديدة، وهي من شروط المنصب القيادي للحكومة ومتطلباته، وهي شروط كان على حزب الدعوة ان يسبق الانتقادات والمطالبات في وقت مبكر، فيضع لها حلولاً عملية قبل ان تعتلي الجميع الدهشة، وقبل ان تتعالى الاصوات المطالبة بها.
وتزداد مهمة العبادي تعقيداً بدواعي متطلبات الحرب ضد داعش من جهة، وفي ضوء الحراك الشعبي المتنامي من جهة اخرى، ولم تكن هناك اشارات موحية ان العبادي قادر على استيعاب كل تلك الشروط وكل تلك المطالب، ذلك ان الشكوك باتت تحوم حول السلوك الذي ينتهجه العبادي في حقيقة الاصلاحات التي تعهد باجرائها امام العراقيين، كون كل الاشارات التي تسلمها العراقيون توحي ان اية تغييرات في الوضع العراقي ينبغي ان تجري من خلال منهج الدعويون في قيادة الدولة والمجتمع، وان العبادي ليس سوى جهة تنفيذية يعمل على ترجمة رؤية الحزب الذي يقوده المالكي، وهو ما صرح به القيادي عباس البيتي بعد اجتماع موسع لقادة التحالف الوطني الذي انعقد على إثر اطلاق التظاهرات الشعبية المطالبة بالإصلاح، حين قال:
“لقد قام التحالف الوطني (بتفويض)! العبادي باجراء سلسلة من الاصلاحات السياسية والاقتصادية والخدمية”.
هذا الامر يكشف اصرار حزب الدعوة على ان تغيير المالكي لن يغير منهج الحزب ولا استراتيجيته في ادارة الدولة، وان اية تغييرات ستكون “سلسلة” لاتمس الهدف النهائي، فضلاً عن انها ستجري من خلال الحزب الذي هو من قام “بالتفويض”، وان العبادي لايمكنه التحرك خارج سطوة الحزب او تحالافاته، والتسليم بان المسألة لا تتعلق بتغيير المالكي ومجيء العبادي، وتجلى هذا الامر في خطوات العبادي المبهمة لتنفيذ مطالب الحراك الشعبي، بالظهور العلني في اجتماعاته مع وجوه الحزب القديمة التي تعدها الجماهير احدى اسباب تدهور اوضاع البلاد، التي ينبغي ابعادها عن مواقع صنع القرار الحكومي، وحتى المطالبة بمحاسبتها وتقديمها للمحاكمة.
ومن الطبيعي التفكير ان هذا الاستقواء تقف خلفه في المقام الاول ايران، واستراتيجيتها المتنامية في المنطقة، التي لم تتردد عن دعوة قيادات التحالف الوطني الى طهران، وبوجود المالكي نفسه، للتشاور حول الواجبات! التي ينبغي تنفيذها مع بدء الحراك الشعبي الذي انطلق من المحافظات الشيعية، التي تعمدت رفع الشعارات الوطنية ونأت عن رفع اية شعارات سياسية او طائفية.
اذن ما كان امام العبادي ليعمله؟
– ان يعمل على تنفيذ مطالب القوى السنية والكردية، وحتى الشيعية، وفي ذلك تصادم مريع لمنهج حزب الدعوة وآماله في استاراتيجته واهدافه النهائية، وانهيار لمسيرته الدعوية فيتحول الى مجرد حزب حاله حال القوى الاخرى.
– ان يقوم برفض تلك المطالب، وحينها ستبقى حالة التنافر مخيمة على اداء الحكومة، وبما يؤدي الى اضعافها، وفي هذه الحال عليه مواجهة مطالب الحراك الشعبي المتصاعدة، وهو غير قادر عليها لو ظهر ان الجماهير جادة في مطالبها، لاسيما وهو يعاني من اعباء ارث ثقيل تركه له المالكي، ان كان في المجال الإقتصادي ام بتعقيدات عقدة المصالحة الوطنية، او باحتلال داعش لمساحات واسعة من ارض العراق.
– ان يتوجه الى العمل بروح الوطنية الخالصة، فيجمد عضويته في حزب الدعوة، ويتخلص من ضغوط الحزب وايديولوجيته، الامر الذي يتيح له البدء بعملية اصلاح حقيقية، تتناغم مع مطالب القوى السياسية والحراك الشعبي، وذلك امر يصعب تصوره في ظل مواقفه الهشة التي تميزت بالوعود أكثر منها بالأفعال، وفي ضوء التصورات الايرانية لمستقبل العراق.
– المراهنة على اجبار القوى السياسية للتخلي عن مطالبها، عن طريق الترضية والاقناع بمناصب حكومية، قد ينجح فيها مع القوى السنية وبعض القوى الشيعية، لكنه شيفشل في مواجهة الاكراد، خصوصاً بعد جنوحهم الى الإستفتاء حول الإنفصال، الأمر الذي أبقى البلاد تسير بعربة المحاصصة الطائفية، ةتلاشي آمال التغيير الذي يصب في خانة مصالح الدولة والشعب، وهو ما اثار سخط الكثير من شرائح العراقين، ما يدعو الى الشك يان العبادي يكاد يكون اهدر فرصته في الفوز بولاية ثانية.
– اللجوء الى استخدام القوة في اطفاء شعلة التظاهرات المطالبة باصلاح النظام كان يعني قمع الجماهير الشيعية نفسها، وقد يؤدي ذلك الى خلل لايمكن اصلاحه في “المحور الاول”، وخسارة الدعويين للكثير من حركة الشارع الشيعي “خلل في المحور الثاني”، لاسيما ان التظاهرات انطلقت من الشارع الشيعي قبل الشارع السني.
– ولعل اللجوء الى الاحتمال الثالث كان سيوقد شمعة في الطريق المظلم، اي خروج العبادي من حزب الدعوة، او تجميد عضويته، والعمل بهويته الوطنية وليس بهويته الدعوية، وهو ما كان سيبعث املاً في المدى المنظور، مهما بدا ضعيفاً، في ايجاد حلاً معقولاً لانهاء التدهور المخيف في مرافق الدولة العراقية ونسيج المجتمع العراقي، لاسيما ان مثل هذا الحل كان يلقى تأييداً متنامياً من الشارع العراقي بكل انتماءاته الطائفية والحزبية.
ويبقى السؤال الذي يتردد في اجواء العراقيين قاطبة: هل ينجح العبادي في البقاء على رأس السلطة؟