لا أتفق نهائياً وقطعياً مع التنظيرات التي أعادت مرجعية مصطلح الدولة العميقة الى إنه ” نشأ أولا في تركيا في تسعينيات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية “، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة.
لكن فات المنظرون الى أن العراقيين في السبعينيات قد اخترعوا مصطلح الدولة العميقة جوهراً ، أي الحكم من خلف الستار ، في سبعينيات القرن الماضي ، أي قبل عقدين من السنين حين تم تثبيته أكاديمياً كصناعة تركية.
يذكر جيلنا من الرجال الى أن الدولة العميقة في حياتنا الأسرية كانت تكنى بـ ” الداخلية ” من دون ذكر الوزارة، لانها ليست مقصودة تماماً ، وإنما أستخدم مصطلح الداخلية تعبيراً عن قوة القرار لحامل أو حاملة هذه الصفة! فمن هي الدولة العميقة في سبعينياتنا؟
إنها المرأة في البيت وتحديدا الزوجة ، وكان يقال مزاحاً وتندراً بيننا نحن الرجال حين نقف على مفترق موقف “وافقت الداخلية لو لا؟” أو”أخذت موافقة الداخلية؟”.
والحقيقة إن هذا الأمر لم يكن لاتندراً ولا مزاحاً ، فالقرارات المصيرية كانت بيد الداخلية في البيت العراقي، فيما كانت لنا السطوة الظاهرية في المقهى والثرثرة عن سطوتنا وتحكمنا بالبيت، وأعتقد أن “الداخلية” مازالت لها نفس السطوة مع “خفتان” بريقها، مع ظهور مصطلح الدولة العميقة كمتحكم بحياتنا ومصائرنا!
وصار تعريف الدولة العميقة “دولة بداخل دولة، مفهوم شائع غير اختصاصي يستخدم لوصف أجهزة حكم غير منتخبة تتحكم بمسير الدولة كالجيش أو المؤسسات البيروقراطية المدنية أو الأمنية أو الأحزاب الحاكمة من خلف الستار أو قوى مسلحة خارج القانون تتحكم بقرارات الدولة السطحية الظاهرة”.
التجربة العراقية بعد 2003 أعطت للدولة العميقة تعريفا ثالثاً، هو إننا نرى الدولتين أمام أعيننا ونتعامل معهما معاً ، حسب الحاجة ، فدولتنا الظاهرة هو مانراه يوميا في الخطابات والشعارات والفشل والاخفاقات، ودولتنا العميقة هي مانراه أيضاً من قوى، خارجة وداخلة عن وفي القانون ،تتحكم في مصائر البلاد والعباد، ليس حماية للدولة السطحية وإنما حماية لمصالح المافيات السياسية والاقتصادية والفسادية، وهي دولة تمتلك السلاح والثروة ونصف السلطة والقضاء، ومن مخرجات دولتنا العميقة إنها موجودة في البرلمان، فمثلاً يتحكم قادة الكتل بالقرار البرلماني التشريعي خارج أطر النظم والقوانين والدستور وبإمكان هذه المجموعة أن تشرّع قانوناً من دون نصاب قانوني!
وبإمكان هذه المجموعة المسلحة والبالغة الثراء والممسكة بمفاصل السلطة أن تعطل تنفيذ أي قرار تتخذه الدولة السطحية إن كان يتعارض مع مصالحها، فيما تعلن عن دعمها القوي لحكومة أنشأتها بمواصفات قياسية تتناسب مع أحجامها!
فالعبادي يعلن حرباً هوائية على الفساد ، فيما يشرّع البرلمان بنداً أو تعديلا في القانون الإنتخابي يسمح لمن شمل بالعفو ، بعد أن حكمه القضاء العراقي بقضايا فساد ورشوة وتلاعب بالمال العام ، بالمشاركة بالانتخابات كمرشح عن حزب أو كتلة ممثلا للشعب العراقي ، الذي يحتج منذ سنوات ضد الفساد والفاسدين.!!
فأي العميقتين نفضّل.. داخلية السبعينيات أم كارثية الالفينيات؟