صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

“الديمقراطية” في العراق.. نعمة أم نقمة؟

في أكثر الأنظمة  الديمقراطية نجاحا واستقرارا وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وأميركا، لم يكن مسموحا أو متاحا لجميع أفراد المجتمع، الحق في الانتخاب أو ما يطلق عليه بالاقتراع العام.

وفي هذا المجال توجد مدرستان، إحداهما تؤمن بأن الانتخاب “حق شخصي”، يقوم على أساس مبدأ (سيادة الشعب)، حيث تتوزع السيادة وفق هذا المبدأ على جميع أفراد الشعب فلا يجوز حرمانهم من هذا الحق .

أما المدرسة الثانية (وهي موضوعنا) تؤمن بأن الانتخاب “واجب” وتعتمد على مبدأ (سيادة الأمة) بمعنى أن السيادة كل لا يتجزأ، وهي أي الأمة شخصية معنوية تمثل المصلحة العليا للشعب ومنفصلة عن الأفراد، وهي بذلك تتيح إمكانية طبقا لمصلحة الامة تحديد الشرائح المؤهلة للقيام بمهمة خطيرة لانتخاب من يحكم البلد ويتحكم بمقدراته ومصير أجياله القادمة، وهذا ما يسمى بالاقتراع المقيد .

“نموذج”: لم يكن في بريطانيا مهد النظام البرلماني في العالم، مسموحا لكافة البريطانيين حق الانتخاب، إلا وفق معيار “الأهلية المالية” أي المواطن الذي يدفع الضريبة، ويقدر خطورة انتخاب شخص ما، يتحكم بمصيره ومصير أمواله وصناعته وتجارته، أضيفت لاحقا شريحة جديدة لتوسيع قاعدة الذين يحق لهم الإنتخاب إعتمادا على ما يسمى (الأهلية الفكرية) من أطباء، معلمين، محامين، مهندسين .. بمعنى تطورت طبقة، ربما ليسوا من اصحاب المال ولكنهم من أصحاب العقول ممن يمتلك الوعي الكافي لتقدير قيمة صوته وخطورته، مقارنة بالناس البسطاء المسحوقين الذين ربما بسبب ظروفهم ومعاناتهم لايقدرون خطورة صوت الانتخاب وليس لديهم ما يخسروه ويسهل التاثير فيهم وبعواطفهم نتيجة الجهل والأمية وقلة الوعي ..

السر إذن وراء نجاح هذه الديمقراطيات وإستقرارها كان (الوعي) وتطوره تدريجيا ليشمل تدريجيا كافة شرائح المجتمع، ليتبنوا لاحقا  ” حق الاقتراع العام ” بعد ان تبنوا “الاقتراع المقيد ” في بداية المشوار .

* “العراق اليوم”، بلد تمزقه الحروب منذ اربعين سنة، نسبة الأمية فيه تتجاوز الـ٤٠٪ وبمعدلات أكبر في أوساط الشباب والبنات، نسبة القيم البدوية والقبلية السائدة فيه تجاوزت الـ٦٥٪ اضافة الى أطنان من الخرافات والأوهام والأساطير التي لاتزال عالقة في أعماق العقل الباطن الجمعي، ويخضع في حياته اليومية الى تحكم شيوخ العشائر وسطوة رجال الدين وأمراء حرب، يرزح منذ اكثر من نصف قرن تحت انظمة حكم سياسية متعاقبة جاءت للحكم بانقلابات او إحتلالات اجنبية فكانت انظمة إما ديكتاتورية سابقة او ثيوقراطية حالية، وفي ظل معدلات فلكية  للفساد المالي وإلإداري… ألخ

ياترى في ظل هكذا عناصر اجتماعية واقتصادية قلقة، وإختلال واضح وتدني في منسوب الوعي والقيم السائدة، هل سيكون (الاقتراع العام) في إجراء الإنتخابات سوى وهم، ومسرحية هزلية وكوميديا سوداء تعيد نفسها .

ما تقدم هو الخلفية والمنطلق النظري ودعوة لضرورة أن يتبنى قانون الإنتخابات الجديد ” تشديد ” شروط، ليس فقط المرشحين الى البرلمان ممن لديهم شهادة “البكالوريوس” كحد أدنى، وإنما الأهم أيضا تشديد شروط الناخبين انفسهم الى أن تكون لديهم  شهادة ” الابتدائية أو المتوسطة ” كحد ادنى للقراءة والكتابة وإمتلاك الوعي … ولحين تحقيق ذلك كحل توفيقي بين مصلحة الأمة وبين مصلحة الفرد وحقوقه، ولحين صحوة الطبقة الوسطى في العراق من غفوتها والنزول من أبراجها وصوامعها العاجية وإعادة تنظيم نفسها لإستلام زمام المبادأة في قيادة الدولة والمجتمع، فإن العراق سيقى يدور في دوامة التخبط والفوضى التي غالبا ما تنتهي بديكتاورية جديدة تليق بالمجتمعات المتخلفة التي لاتعرف ماذا تريد والى أين تسير، يحكمها الاموات وتدور في حلقات الماضي ودوائره المغلقة .

رئيس مركز دجلة للتخطيط الاستراتيجي

أقرأ أيضا