من المخجل التحدث عن فرحة يوم الإثنين، الرابع عشر من هذا الشهر من العام 1958، ونحن أمام فاجعة الناصرية وشهداء مستشفى الحسين!
عماذا تتحدث وعماذا تكتب أيها السنونو الباحث عن الشمس والحرية؟!
هناك من حزن وبكى مثلي دما .. وهناك من فرح ومن شمت!
ولو أردت التأمل ومعرفة عدد الشامتين لما حصل في الناصرية، وأردت حساب عديدهم لما عانيت!
أنهم بعدد الشامتين يوم إحتلال الموصل!
هكذا سهلت العملية الحسابية!
فهي لم تعد عملية جمع وطرح!
بل أنها باتت عملية تقسيم!
لماذا إذاً نورت سماء العراق بعراقيتك يا عبد الكريم قاسم في الرابع عشر من هذا الشهر .. ألم تقرأ صفو المعادن وشوائبها فينا؟!
لقد وقفتم أيها الزعيم الجميل، على مرتفع السدة الترابي، ووقف إلى جانبكم البريطانيون المفاوضون وأنتم تطلون على الأكواخ العراقية الطافية فوق المياه الآسنة، فأخرج المفاوضون البريطانيون مناديلهم وغطوا بها أنوفهم .. وقلت لهم سأتفاوض معكم عن حصة العراق من النفظ، من أجل هؤلاء .. وأخذتهم لوزارة الدفاع .. “ويومها قرر البريطانيون قتلك” كانوا يعرفون بأنك أنت العراقي الأخير! وبقتلك سينهار العراق .. وكما توقعت أنت في خطابك بمدينة “الناصرية – ويا للمصادفة – سوف أخرج من هذه الدنيا وأنا لا أملك سوى هذا القميص الذي سيكون مضمخا بالدم”!
ما كان ينبغي أن تعملها يا صديقي الجميل .. والله ما كان ينبغي أن تعملها .. فقط لو قرأت صفو المعادن وشوائبها..!
هم أنفسهم الذين قتلوك في الثامن من شهر شباط الخبيث في يوم الجمعة من العام 1963 هم من أحرقوا مستشفى الحسين في الناصرية .. هؤلاء لا تنتهي أعمارهم .. أنهم الجيل الخبيث، وجيل خبيث يلد جيلا خبيثا آخر .. وهكذا يتناسلون ويتوالدون حتى يقضون في النهاية على العراقي الأخير .. ويومها سوف يرفرف علم الدولة العبرية في سماء الوطن .. وتنتهي مهمتهم..!
ما كان ينبغي أن تعملها يا صديقي الجميل .. والله ما كان ينبغي أن تعملها .. فقط لو قرأت صفو المعادن وشوائبها ..!
يوم زرت العراق ورأيت بغداد خارج بغداد، وقفت أمام نصب بائس لك في زاوية مهملة من زوايا شارع الرشيد .. والله .. شاهدتك وأنت تبكي وبللت دموعك قميصك المضمخ بالدم يوم أطلقوا عليك النار في ستوديو نشرة الأخبار بدار الأذاعة العراقية في يوم الشؤم البعثي .. نزلت من منصة التمثال، وتعثرت في رصيف الشارع المتكسر.. دنوت مني. همست في أذني، وقلت لي شيئا، وعدت متعثراً في رصيف الشارع المتكسر.. عدت لتقف فوق المنصة البائسة، رافعا يدك الكريمة بإتجاه السموات!
يوم الإثنين الرابع عشر من هذا الشهر من العام 1958 وأنا أحد شهود ذلك العصر .. تنفسنا عبير الحرية ونغماتها في سموات الله .. فتحنا الأبواب الموصدة بإشارة منا وكما يفعل سحر الساحر فتحت بوابات الكون، ولاح الأفق الرحب أمام جيلنا.. عرفنا المعجزات التي يمكن أن تهبها سموات الله .. فأكتشفنا أنها لم تكون سوى حلم من أحلام المنامات .. كان الأوغاد في صفوفنا يهتفون بإسمك يا صاحبي وهم يقفون إلى جانبنا .. وحين دنت ساعة الصفر، إغتالوك .. وأحرقوا مستشفى الحسين في مدينة الناصرية .. وكلما وأينما أدرت وجهي أراهم أفراداً ومجاميع يمشون في كل مكان في الشوارع وفي الجوامع والجامعات .. هم أنفسهم الذين أعلنوا عن رسم صورتك على صفحة القمر في السماء .. أراهم يمشون في شوارع الوطن، يهدمون البناء وينشفون الأنهار ويمضغون خبز الفقراء وينتهكون كرامة الدينار العراقي، ويبيعون حدود الوطن في الشمال والجنوب، وفي الشرق والغرب .. صحارى لا قيمة لها .. مجرد رمال يأتي بها الله ويحركها بين النجف والمملكة، وبين البصرة والدولة .. رمال تروح وتأتي رمال في مكانها لتغطي ينابيع النفط والكبريت والزئبق الأحمر ..! وهي مجرد رمال في الصحارى التائهات!
“البقاء في حياتكم يا أهلي الطيبين في الناصرية .. وليفرش الله وملائكته، لأهلنا المغدورين في مستشفى الحسين فسيح جنانه من السندس والإستبرق، وليلهم الله سبحانه أهلنا في الناصرية الصبر والسلوان”.
السر الذي همسه تمثال عبد الكريم قاسم في أذني .. سيبقى يؤرقني .. وأريد أن أتخلص منه وأبوح به .. قال لي .. “آسف”
وصعد نحو المنصة البائسة متعثراً بالرصيف المتكسر..!