يبدو أن الرياح بدأت تتجه عكس ما تشتهي السفن، ففي الأمس القريب أطاح ما يسمى بالربيع العربي بقادة عدة دول عربية يعدون من عتاة قادتها في طريقة حكمهم، ومن أقدمهم في مدد الحكم التي حكموها ورغم لطافة الربيع وحلاوة نسائمه كفصل من الفصول السنوية الاربعة، الا أن ربيع العرب كان جحيما عاصفا احمر حصد مئات الالاف من الرؤوس، ودمر البنى التحتية لمعظم دول المنطقة، وتسبب بازمات انسانية لم يشهد مثلها التاريخ منذ الحرب العالمية الثانية، وتغيرت بسببه الجغرافية ونسخ التاريخ وعجز علماء الاجتماع والنفس عن تفسير العديد من الظواهر الانسانية التي رافقت هذا الربيع وخالفت الطبيعة البشرية جملة وتفصيلا.
كانت فترة الربيع العربي أشبه بمن يخلط الماء الصافي في بحيرة زرقاء رائقة ترى قاعها من السماء ليحولها في لحظة الى بركة قاتمة مظلمة لاترى اصبعك ان غمرته فيها! وتجلت الفوضى الخلاقة التي دعت اليها كوندليزا رايسى بكل صورها، فمن الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري الى التهجير والذبح والانهيار والصراعات الدموية واقتتال عربي عربي شمل البيت العربي من بابه حتى محرابه! ومن الازدهار الثقافي والعلمي والادبي الى الجهل المطبق والاسفاف والترهات، حتى ساد الجهل وازدهرت الخرافات تحت مسميات مختلفة وصار المقدس الديني هو التابو الذي لا يجوز مناقشته، وبات من الطبيعي ان يتشكل تحالف عربي لقتال دولة عربية واصبح من الاعتيادي ان تتشرذم دول وتتحول الى كانتونات ليتقاتل سكانها فيما بينهم تحت مسميات قومية وطائفية وعرقية واصبح مشهد الرؤوس المعلقة في مداخل المدن والاشلاء الممزقة على قارعة الطريق المشهد الاكثر انتشارا! وضاع نفط العرب في بطون الغرب بعد ان كان الغربي يضرب على كرش العربي واصفا إياه ببئر نفط متحرك!!
رغم ان الربيع العربي قد خطط له الاذكياء بدقة متناهية لكن وكما يقال ليس هناك عملا متقنا، فمن يضرم النار في كومة قش لابد ان يتوقع أن الشرر المتطاير سيحدث حرائق صغيرة قد يصعب السيطرة عليها، فحين يراها البعض صغيرة في تأثيرها تكون مؤثرة في نتائجها “ومعظم النار من مستصغر الشرر”، فعندما يسقط رماد السيكارة على سجادة ايرانية، لا بد أن يترك عليها اثرا من الصعب اصلاحه.
مع بداية الربيع العربي والذي قد يتفق الكثير معي في تسميته “الجحيم العربي”! بدأ خريف قاس في مكان اخر من هذا العالم، خريف حمل معه رياحا عاصفة اسقطت حتى اوراق الاشجار الدائمة الخضرة مصحوبا بشرارات خلفت حرائق قاسية في اقتصادات دول لم تكن تتوقع يوما ان ذلك الحريق سيطالها! مليارات اليوروات صرفت للسيطرة على موجات الهجرة غير المنظمة وغير المسبوقة التي اجتاحت معظم الدول الاوروبية تبعتها ازمات سياسية واجتماعية ضربت اوروبا في الصميم، فالبريكسيت البريطاني وصعود الشعبويون لسدة الحكم في عدة دول اوروبية وارتفاع اسهم اليمين المتطرف في فرنسا وايطاليا والدعوات الانفصالية في اسبانيا وتآكل الديمقراطيات في المانيا والنمسا جميعها كانت نتائج حتمية لذلك الحريق الذي اندلع في دول الربيع العربي فاحترق الاخضر ال اوروبي بسعر اليابس العربي ناهيك عن عشرات الهجمات الارهابية التي ضربت اوربا من شمالها حتى جنوبها، فلم تسلم من نار الارهاب دول الاسكندنافيات الباردة ولا ايبيريا الحارة ولا منطقة الغال المعتدلة ولا انكلترا التي تحتمي خلف البحار، فكان لكل منهم نصيب في الهجمات ولكون الانسان له قيمة في هذه البلدان فقد كان لما جرى أصداء كبيرة في الاوساط المحلية والعالمية تختلف عن تلك الاصداء التي ترافق ما يحدث في بلدان الربيع العربي.
يبدو لي ان فرنسا هي اكثر المتأثرين برياح الخريف التي تبعت الربيع العربي، فحين وصلت الى باريس قبل ثماني سنوات لم تكن مدينة النور كما هي اليوم، يومها كنت امشي في شوارعها دون أن أرى دورية من جنود الجيش تحمل الرشاشات واصابعها على زناد الاطلاق، ولم يكن هناك تفتيش حتى عند باب دخول وزارة الخارجية الفرنسية، ولم تكن هناك حواجز عند قصر الايليزيه ومبنى البرلمان حتى صار التفتيش تقليدا في باب اصغر محلات التسوق وازداد عدد الكامرات التي تراقبك ليل نهار حتى في اضيق الحارات الباريسية القديمة، واصبحت عيون الشرطة تنظر اليك لتستوقفك في اية لحظة، واصبح برج ايفيل الشهير برجا زجاجيا لا يمكن ان تدخله الا بعد عبورك حاجزا زجاجيا مقاوما للرصاص لتتفحصك اجهزة السونار التي تكشف رأس الدبوس في حمالة الصدر!!
اصبحت العمليات الارهابية نوعية اكثر منها كمية، وصار اصفرار الشوارع كل سبت هو اللون السائد، وربما سيعم هذا الاصفرار كل ايام الاسبوع، خصوصا بعدما اصر اصحاب الستر الصفراء على استمرار احتجاجهم متحدين حكومة ماكرون التي يتهمونها بانها سبب تعاستهم وتعاسة اجيالهم، ويبدو لي ان هذا الاصفرار سيتحول برتقاليا لاسيما وانه اختلط بلون دماء من سقط برصاص المتطرفين في البتاكلون بالامس ومن سقط اليوم في ستراسبورغ، فاللون البرتقالي هو لون السماء التقليدي عند حلول الخريف!!