خلال الحرب الأهلية في لبنان، كان يعمل معنا في قسم السينما صديق يعاني من مشكلة السمع، ويستعمل سماعة الإذن لالتقاط الأحاديث وسماع حوار الأفلام وما أشبه.. وكان يقضي جل أوقاته في شرفة الشقة، المقر الذي نعمل به في كورنيش المزرعة، وكانت الانفجارات تتوالى في احتدام الحرب الأهلية اللبنانية، ثم خفت بعدها، ولكن الحرب الأهلية لا تزال قائمة حتى يومنا هذا “كما العراق”.. وكانت كاميراتنا دائما على أهبة الاستعداد!
يحصل انفجار هنا أو هناك وما أكثر الانفجارات، وبعد أقل من دقيقة ونحن ننتظر موقع الانفجار، يخبرنا صديقنا وهو جالس في الشرفة.. الانفجار حصل في الشياح أو مثلا في عين المريسة.. وقبل أن نتحرك نحو منطقة الانفجار يقول لنا.. القتلى عشرون والجرحى ثلاثون وقد تهدم مقر المرابطين بالكامل.. فنتوجه إلى مكان الانفجار لتصويره!
صاحبنا يلتقط الأخبار.. أخبار الراديو وأخبار الاتصالات اللاسلكية، لأن سماعة الأذن فيها جهاز استقبال بحجم رأس الدبوس.. فكيف بالصحون الفضائية العملاقة للقنوات الفضائية وشركات الهاتف النقال والمتأسسة منذ العام 2003 في وسط العاصمة العراقية وتحيط بأجهزة الإستخبارات والأمن ومكافحة الأرهاب.. وهلم جرا.
من هذا المنطلق فإن كل بلدان العالم عمدت إلى إنشاء “المدن الإعلامية” خارج مدنها بعيدا عن مراكز الأمن والجيش والشرطة والاستخبارات والوزارات الحساسة.. وتقوم تلك الدولة بالتعاقد مع الأقمار الاصطناعية وتعطي حزم البث للقنوات الفضائية وتضعها تحت الرقابة ضمنا لمصلحة الوطن. وعندنا في هولندا مدينة الأعلام في “هلفرسم” وفي المدينة كل وسائل الحياة التعليمية والأكاديمية والأسواق ووسائل الراحة.. مدينة كاملة منها تبث الفضائيات ومحطات الراديو.. وكذا الحال في مصر ودبي وحتى في عجمان. ومنذ ما يسمى بالتغيير في العراق وحتى الآن فإن كل أسرار الدولة ومؤسساتها الأمنية والاستخبارية بحوزة القاعدة والدواعش وفلول نظام صدام حسين الفاشي!
هذا جانب يتعلق بالأمن، وثمة جانب آخر لا يقل أهمية عن المخاطر الأمنية للصحون الفضائية وهو التأثير الفيزيائي للصورة. فإن حقيقة الصورة على الشاشة هي صورة ثابتة فوتوغرافية وليست متحركة، ولكن البلجيكي “جوزيف بلاتو” كان يعتقد بأن الصورة الفوتوغرافية يمكن أن تتحرك، ورسم نظريته في تحريك الصورة وصار يجري التجارب على عينيه حتى فقد بصره وأصيب بالعمى وحين تم تطبيق مخططاته النظرية تحركت الصورة الفوتوغرافية ولكنه لم يرها.. ومنه استفاد قديس الحياة توماس أديسون مخترع الكهرباء وغير الكهرباء، فقام بتصنيع أجهزة “الكنتوسكوب” وهي تشبه صندوق الفرجة أو بالأحرى صندوق الفرجة يشبهها.. وصار الناس يشاهدون الصورة الثابتة تتحرك والناس يمشون على الشاشة والقطارات تخترق المسافات.. والمبدأ الذي قامت بموجبه نظرية تحريك الصورة هو أن الصورة الثابتة تبقى في قرنية العين أقل من عشر الثانية وحين تليها الصورة الثانية تحصل الحركة.. وبعد حين من الزمان وبعد كم هائل من الدراسات أكتشفوا بأن ما تلتقطه قرنية العين لتحريك الصورة تختزن في الذات البشرية مليارات الصور حيث الحركة تبث بسرعة 24 صورة “ثابتة” في الثانية الواحدة.. وأكتشفوا بأن الجرائم الغريبة قد كثرت بعد تحريك الصورة وبشكل خاص بعد ظهور التلفزة الفضائية فكثيرا ما تحصل الجرائم ويتحرك منفذها باللاوعي لتنفيذ جريمته، والأمثلة كثيرة ومستقاة من ملفات الأمن في العالم. والجريمة التي حصلت في ولاية فرجينيا للتكنولوجيا عام 2007 والتي قتل فيها طالب 33 زميلا له مع 28 جريحاً، قد تكررت في جامعة ثانية بنفس الطريقة يقودها التأثير الفيزيائي وليس السلوك الاجتماعي. وملفات الأمن تزخر بالأحداث التي يقودها التأثير الفيزيائي على الإنسان!
هذا التأثير الأمني والفيزيائي للفضائيات يسهم بشكل أو بآخر في إرباك الحياة بشتى الصعد إضافة إلى التأثير السيكولوجي والسياسي والاجتماعي ونمط الحياة للمجتمعات.. ولذلك فإن وجود قوانين واضحة لكافة مؤسسات الدولة تلك التي تتعلق بإنشاء الفضائيات ومعرفة مؤسسيها هي ضرورة حضارية وسياسية ووطنية، إذ لا يجوز أن ينفرد شخص بإنشاء قناة فضائية لخطورة هذه الأداة الإعلامية.. والقوانين العلمية بالتالي هي التي تحدد المؤسسين ومستواهم الأكاديمي والوطني!
الفضائيات في العراق زادت على الخمسين فضائية.. منها ما يقرب من 34 قناة دينية وهناك فضائيات تحركها أجندات خارجية.. وكل الفضائيات تعبث بالحياة العراقية وتعمل على تدميرها ولا أحد يستطيع أن يخرج بدراسة تنقذ البلاد من هذه الكارثة!
قبل سقوط النظام وعلى هامش مؤتمر القمة الإسلامية الذي إنعقد في إيران عام 1998 دعيت مع ستة باحثين لإلقاء محاضرات على مدى ستة أيام عن الإعلام المرئي، وكانت الندوات تقام في جامعة طهران وكان الحضور يتمثل بطلبة الجامعة والمؤسسات الإعلامية.. عنوان محاضرتي “الفضائيات والعقل المركزي للصورة” ويوم محاضرتي رفع أحد الطلبة يده سائلا وقائلا “أنا طالب مسلم ملتزم بكل مفردات الدين الإسلامي، ولكني في آخر الليل أبحث عن الفضائيات الأجنبية التي تبث أفلام البورنو الجنسية، وأريد منكم النصح” وكان جواب رئيس الجامعة ساذجا.. فاستأذنت الرئيس أن أحاور هذا الطالب قبل تقديم محاضرتي.. وكان إتهامي منصبا ليس على الطالب الذي أسميته “الطالب الشجاع”.. ولكني قمت بتحليل القنوات الفضائية الإيرانية وطبيعتها.. مع أن التلفزة الإيرانية متقدمة كثيرا على ما نعيشه الآن في العراق من زحمة الصور على الأثير ونحن صراحة مخترقون أمنيا وملوثون فيزائيا ومهدمون حضاريا وإنسانيا.. وقد لعبت الفضائيات كل حسب ما هو مرسوم لها دوراً خطيراً في الحياة العراقية وعلى الإنسان الفرد وعلى المجتمع.. ولعل شبكة الإعلام العراقية وخلال ثمانية عشر عاما مثالا متميزاً في الرداءة، توالت على قيادتها شخصيات عبثت بالمال العراقي فسادا والأخطر فإنها عبثت بالمجتمع العراقي فساداً.. ولا تزال.. وتضم الشبكة أربعة آلاف وخمسمائة منتسب في حين أن بناءها لا يتسع سوى إلى 350 منتسبا..! ولو تأسست في العراق مدينة أعلام على أسس صحيحة قادرة على استيعاب كل الفضائيات دون المساس بحرية التعبير التي ينبغي أن تتسم بالوعي والوطنية لساهمنا في خلق مجتمع نظيف، نبيل، وسوي، ولاستثمرنا طاقات الشباب الفضائيين الـ (4200) منسب، في المدينة الإعلامية بعد تأهيلهم لهذه المهمة الصعبة السهلة! ولأنقذنا شبكة الأعلام العراقية من الترهل الثقيل والإستنزاف المالي ولاستثمرنا ميزانية القناة التي تجاوزت المائة مليون دولار لتطوير البرامج والبث التقني المعاصر!
عندما تأسست قناة الجزيرة في بدايتها كان عدد منتسبيها تسعة وثمانين شخصا ولكنهم من الكفاءات الإعلامية وحين زرتها فإن مقرها كان أمام قناة قطر الفضائية ذات البناية الشاهقة.. وعندما أشاروا لي بالدخول للقناة كنت أتصور البناء هو مكتب إستعلامات القناة ذات البناية الشاهقة، ليتضح لي أن مكتب الاستعلامات هذا هو قناة الجزيرة فيما البناء الشاهق هو القناة القطرية! وحين زارها الرئيس حسني مبارك قال “أهي دي علبة الكبريت التي شغلتنا“!
عندما انتخبت رئيسا لرابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين في لبنان أبان هيمنة الجستابو في العراق على مقاليد البلد.. قررت وضمن حلم واه أن أهيئ لوطني دراستين مدعمتين بالقوانين.. الأولى أسس وقوانين الثقافة بكل مؤسساتها الأكاديمية والنقابية والوزارية والدراسة الثانية قوانين الإعلام.. وأرسلتها إلى المتخصصين من الأصدقاء في العالم لأبداء الملاحظات وبعد أن أتممت كتابتها أرسلتها إلى مؤسسة قضائية لتدقيقها من الناحية القانونية.. وحين سقط نظام الدكتاتور.. قدمت الدراستين لأول حكومة عراقية.. ظنا مني أنني لا أزال في الحلم.. فصحوت يومها من منامي!
فإضافة إلى التأثيرات الفيزيائية والأمنية والسيكولوجية والاجتماعية والسياسية للقنوات الفضائية وبدون الدخول في التفاصيل، فإن الفضائيات الأربعة والخمسين تمارس وظيفة الساونات لغسيل “جثامين” الفاسدين في جانب وغسيل المال في جانب آخر.. وأصبح الفاسدون على الأثير يدينون الفاسدين على أرض العراق وهم بديكورات محسنة من اللحى والشوارب، وبأطقم إيطالية سوداء وربطات عنق حريرية.. “وكلهم عكلهم سود ومنين أعرفه“!
المجد لله في العلا.. وعلى العراق السلام!
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا