صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

السلام العبري (النشيد) المزعوم

عنوان حملته أغلب المانشيتات المهتمة بالصراع العربي الاسرائيلي، وجمله اعتادت الأذن سماعها مع فشل كل مفاوضات مع دولة الاحتلال، ولكن فى تلك المرة لن اطرح عليكم تاريخ المباحثات السياسية بين الجانبين العربي والاسرائيلي، أو كيفية إحياء عملية السلام التى بات كوكب بلوتو أقرب منها الينا، ولكن هنا نسلط الضوء على سلام أخر غير السلام فى العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، وهو السلام الوطني (النشيد) لدولة الاحتلال الاسرائيلي، فهو أيضا سلام مزعوم أو بالادق سلام مسروق لحنه وكلماته.

ولا تتعجبوا من ذلك فان كانت دولة الاحتلال نفسها شيدت على اغتصاب العصابات الصهيونية لاراضي الفلسطنيين، وتاريخها محصور بين سطرين التزييف والتزوير، فكثيرا منا يعلم كيف اسرائيل سرقت أرضنا، ولكن اغلبنا لا يعلم كيف سرقت نشيدها رمز دولتها ثم تراثنا وموسيقانا تباعا على مدار السنوات الاخيرة.

فى عام 1882م انتقل كل من النمساوي اليهودي نفتالي هيرتس إيمبر الى فلسطين كسكرتير لعضو البرلمان الانجليزي والدبلوماسي الصهيوني لورنس اوليفانت، وأثناء مكوث نفتالي بفلسطين اهتم كثيرا بوضع اليهود بها وببلاد الشام، وعبر عن ذلك بقصائد عديدة ابرزها قصيدة “حراس الأردن” الذي عبر فيها عن فخره الشديد بيهود الاردن، وظل نفتالي طوال مدته بفلسطين يمارس هويته الاولى، ألا وهي كتابة الشعر، الى أن جاء عام 1886م ليحمل أول كتب نفتالي بعد أن جمع فيه مجموعة كبيرة من ابرز قصائده، وقد عمد نفتالي الى أن يكون ذلك الكتاب الذي حمل عنوان “نجم الصباح” هو أول مولود شعري حقيقي له بعد أن تم إصدار الكتاب من مدينة القدس، ولكن ما لم يتوقعه نفتالي يوما هو ان يخرج من ذلك الكتاب السلام الوطني لدولة ستجمع كافة يهود الشتات، وستخلد اسم نفتالي فى أذهان كافة اليهود والصهاينة فى العالم، وليس من عرفهم نفتالى من يهود بفلسطين ولبنان والاردن فقط، فسرعان ما بذغ نجم قصيدة هتكفاه فى كافة اوساط ومجامع اليهود.

وكان أكثر من تأثر بقصيده هتكفاه المهاجر المولود في اليهودي صموئيل كوهين والذي رحل لفلسطين بتلك الفترة، فقد أصر كوهين بعمل الموسيقى اللحنية لقصيدة هتكفاه، حتى بدأ لسان كوهين يقرأ القصيدة على التوالي ويده تلعب على آلة الفلوت، وهي الالة التي انتشرت وقتها بفضل تحديثها على يد العازف الالماني ثيوبالد بيم، الى أن أنهى صموئيل كوهين لحن هتكفاه ليشارك نفتالي الاحساس والمشاعر ونظرتهم للغد كصهاينة، وكيف سيكون مستقبل الموسيقى بعد التطور الذى حدث لاغلب الالات الموسيقية وقتها بأوروبا الغربية، وكيف سيكون وضع اليهود الفارين من أوروبا الى فلسطين بعين يغلب عليها الترقب والاخري يغلب عليها عنوان القصيدة التي جمعتهم الا وهي الامل (هتكفاه).

وهنا كانت الاقدار تُخبِّئ لهم ما لا يتخيلوه يوما وما لا يتخيله أحد وقتها، عندما جاء عام 1948م لكي ينفذ وعد بلفور على أرض الواقع بعد أن تغلبت العصابات الصهيونية على الجيوش العربية، ورفعت نجمة داوود على أرض فلسطين كي تكون للصهاينة دولة، وبنفس العام اعتمد مؤسس دولة الاحتلال ثيودور هرتزل “هتكفاه” كنشيد للبلاد بصفة غير رسمية الامر الذي جعل من نفتالي وكوهين من ابرز رموز الدولة الوليدة، فيبدو أن حالة التناغم لم تقتصر على صموئيل كوهين ونفتالي فقط، أي الملحن والشاعر فقط، بل وقائد اوركسترا العنصرية الكبرى ثيودور هرتزل، فالسرقة واغتصاب حقوق الغير لم تقتصر على الشعر والموسيقى فقط، بل وعلى أرض وتاريخ ومقدسات أيضا، الى أن صادق الكنسيت على السلام الوطني هتكفاه فى نوفمبر 2004م كي يكون النشيد الرسمي للبلاد، وكي يردد أحفاد نفتالي وكوهين أسماء اجدادهم، وتخلد فى كتب دولة الاحتلال الاسرائيلي كأحد رموز الدولة العبرية.

ولمن يستمع للنشيد الاسرائيلي جيدا سيجد بكل وضوح الميلودي العام (الحالة الموسيقية) بلحن هتكفاه تميل بشدة لموسيقى دول البلقان، ومن يستمع له مع الكلمات سيجد تناقض صارخ، فموسيقى النشيد تميل للحزن بينما كلمات النشيد نفسها بعنوان “الامل”، ونتيجة لهذا التناقض تم تحديث اللحن مع زيادة سرعة الايقاع لكي يتماشى اللحن مع الكلام، وتلك ابرز الاغاني والالحان التى أستعان بها صموئيل كوهين وأقتبس منها جمل موسيقية لعمل لحن هتكفاه، كالاغنية البولندية قرنة Krakowem، واللحن الاوكرانى Kucheryava كاترينا، والاغنية الرومانية Cucuruz مكعب، والاغنية الايطالية بلو دي مانتوفا Mantovana، كما أن صموئيل كوهين نفسه أعترف بأن الكثير من الحانه مأخوذة من اغاني شعبية بمولدافيا.

وإذا كان هذا وضع لحن النشيد فلم يختلف الامر كثيرا بخصوص كلمات النشيد نفسه، فما لايعلمه الكثيرين أن قصيدة هتكفاه او الامل فى نسختها الاولى تأثرت بدرجة غير طبيعية  بالنشيد الوطني البولندي، فيكفي أن تأتى أولى ابيات قصيدة هتكفاه “أملنا لم يضع بعد” متطابقة نصا مع اول ابيات النشيد الوطني البولندي الذى جائت اولى كلماته “بولند لم تضع بعد”، وتبقى أهم أعمال نفتالي على الاطلاق بعد هتكفاه هى ترجمة أشعار عمرو الخيام  للغة العبرية.

جدير بالذكر أن الشاعر نفتالي هيرتس إيمبر توفى في نيويورك عام 1909م ونقل جثمانه لمدينة القدس عام 1953م.

وقد اعترض الكثير من الحاخامات على ذلك النشيد ليس لدرجة التأثر الشديدة بموسيقات والحان اوروبية قديمة تصل لدرجة سرقة العديد منها صراحة، ولكن لعدم ذكر كلمة الله أو أي رمز يهودى بالنشيد، بينما انتقد عرب الداخل النشيد لانة لم يذكر سوى تاريخ اليهود.

وبعد المرور التفصيلي على رمز دولة الاحتلال (السلام الوطني) دعونا نتعرف على الوضع الموسيقى الحالي بها، فتبقى أشهر مطربات اسرائيل بالفترة الاخيرة هم “إشتار” وهي من اصول مصرية، والمطربة “ريتا” وهي من اصول ايرانية، ومن يستمع لهم سيجد أغلب أغانيهما التي حققت لهما شهرة خارج حدود الدولة العبرية مسروق الحانها من أغاني عربية، كما انه يظل المطرب المصري عمرو دياب المادة الخام لكافة ملحنين وموزعين الموسيقي باسرائيل، فلا أبالغ لو قلت مع نزول كل البوم غنائي للفنان المصري عمرو دياب يتبعه بأيام قليلة صدور نسخة طبق الاصل ولكن باللغة العبرية بأصوات مطربي اسرائيل، ونفس الامر من سرقة الالحان والتوذيعات الموسيقية كان يتكرر مع نجمي الموسيقى التركية المطرب تاركان والمطرب والملحن مصطفى صندل.

فليس غريب على عصابات شيدت حدود دولتها على أنهار الدماء، قبل أن ترسم ورقيا حدودها بأنهار الماء، وعلى نبت شيطانى جاء نتيجة علاقة مشبوها بين المملكة المتحدة والمنظمة الصهيونية، وعلى أناس أعتادوا تزوير التاريخ وسرقة كنوز الدول التى عاشوا فيها قبل مجيئهم الى أرض فلسطين، أن يكون حتى نشيدهم ورمز دولتهم المزعومة شيئا أيضا مزعوم أو بالادق مسروق.

باحث ومحلل سياسى بشؤون الشرق الاوسط وشمال افريقيا

fady.world86@gmail.com

أقرأ أيضا