صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

العدول الدستورية هي الحل

لعل من نافلة القول، أن كل نظام سياسي يولد، تولد معه أدوات الحل التي تعينه على تجاوز التحديات والتهديدات، وأهم أداة هي الدستور بوصفه مرجعا لحل التنازع بين المتخاصمين بما يسمح بانسياب أنماط التفاعل السياسي، لكن ونظرا للقابلية المفرطة للنصوص الدستورية وعدم كفايتها وشموليتها، تحول الدستور إلى جزء من المشكلة بدل أن يكون عماد الحل.

وزاد الأمر تعقيدا الهفوات والأخطاء التي وقعت فيها قرارات المحكمة العليا الاتحادية سواء بتشكيلها القديم أو الجديد بتفسير بعض النصوص الدستورية التي قادت إلى نهايات مسدودة أو قاب قوسين أو أدنى من ذلك.

لكن مع إقرار المحكمة لعنصر العدول في المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2022 والتي نصت على أن “للمحكمة عند الضرورة وكلما اقتضت المصلحة الدستورية والعامة أن تعدل عن مبدأ سابق أقرته في إحدى قراراتها على أن لا يمس ذلك استقرار المراكز القانونية والحقوق المكتسبة السابقة” وان كان قد سبقته عدة قرارات، ومنها قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم (90) لسنة 2021 وتم اقرار “العدول عن مبدأ السوابق القضائية في دستور جمهورية العراق لسنة 2005″، فأنه بالإمكان رسم خارطة مستقبل تساعد على تصحيح المسارات من خلال تبني العدول الدستورية وعلى النحو الاتي :

 أولا: المعضلة الناشئة بفعل تفسير المادة (76) من الدستور، والذي يتطلب إعادة النظر في قرار المحكمة الاتحادية العليا المتعلق بتفسير الكُتلَة النيابيّة الأكثر عدداً؛ في قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم 25/ إتحادية/ 2010 والذي جاء فيه (أن تعبير “الكتلة النيابية الأكثر عدداً” يعني: “إما الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، دخلت الانتخابات باسم ورقم معينين وحازت على العدد الأكثر من المقاعد، أو الكتلة التي تجمعت من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابيّة التي دخلت الانتخابات بأسماء وأرقام مختلفة ثم تكتلت في كتلة واحدة ذات كيان واحد في مجلس النواب، أيهما أكثر عدداً، فيتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشح الكتلة النيابية التي أصبحت مقاعدها النيابية في الجلسة الأولى لمجلس النواب أكثر عدداً من الكتلة أو الكتل الأخرى بتشكيل مجلس الوزراء استناداً إلى أحكام المادة (76) من الدستور”، ولقد تم التأكيد على المبدأ ذاته في القرارات رقم 45/ إتحادية / 2014، وكذلك القرار رقم 70/اتحادية/2019، والقرار رقم 170 / إتحادية/ 2019 .

 

ومع أن المحكمة الاتحادية عدلت عن قراراتها السابقة فيما يتعلق بتفسير المادة (76) من الدستور من خلال قرارها رقم (7) وموحداتها (9) و (10) /إتحادبة/ 2022 الا انها أبقت على الجوهر المتضمن تكليف الكتلة المتشكلة بعد الانتخابات حيث نص القرار “انه لا يوجد ما يمنع من أن تقدم قائمة الكتلة الأكثر عددا في أي جلسة لمجلس النواب حتى وإن كانت بعد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لأنها خاضعة للتغيير بحسب التحالفات بين الأحزاب والقوائم لحين الإعلان عن هذه الكتلة بشكل رسمي من قبل رئاسة مجلس النواب ورفعها إلى رئاسة الجمهورية“.

لقد أثبت هذا التفسير بما لا يدع الشك أنه قد أفرغ التنافس الانتخابي من محتواه الحقيقي، وناشز ما تعمل عليه الديمقراطيات الراشدة بتكليف التحالف والحزب الفائز مما ادخل النظام السياسي في حالة من التعطيل والتسويف غير المبرر.

الحل: العدول عن هذا التفسير من قبل المحكمة الاتحادية وتكليف الفائز الأول بتشكيل الحكومة عملا بالنماذج الديمقراطية ومن أجل إنهاء حالة التعطيل والأزمة التي يمر بها العراق مع كل انتخابات.

ثانيا : العدول عن تفسير المادة (70) التي تنص:

أولا: ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيسا للجمهورية، بأغلبية ثلثي عدد أعضائه

ثانيا: إذا لم يحصل أي من المرشحين على الاغلبية المطلوبة يتم التنافس بين المرشحين الحاصلين على اعلى الاصوات ويعلن رئيسا من يحصل على اكثرية الاصوات في الاقتراع الثاني.

وقد فسرت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها 16/ إتحادية / 2022 المادة (70/ أولا) ” ينتخب مجلس النواب رئيسا للجمهورية من بين المرشحين بأغلبية ثلثي مجموع أعضاء مجلس النواب الكلي (220 نائبا في الدورة البرلمانية الحالية) ويتحقق النصاب بحضور ثلثي مجموع اعضاء مجلس النواب الكلي (220 في الدورة البرلمانية الحالية)”.

الحل: استند قرار المحكمة التفسيري لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية بنصاب اغلبية ثلثي مجموع اعضاء مجلس النواب بناء على “الاغلبية المطلوبة في جولة اقتراع الاولى وهي اغلبية الثلثين”.

وعليه مثلما استند القرار التفسيري الى الاغلبية المطلوبة في جولة الاقتراع الاولى، فيمكن للمحكمة العدول عن قراراها والفصل بين جلسة نصاب الاقتراع الاول عن جلسة الاقتراع الثاني بناء على الاغلبية المطلوبة في جولة الاقتراع الثاني التي تنص ” ويعلن رئيسا من يحصل على اكثرية الاصوات في الاقتراع الثاني” الذي يعني الاحتكام الى احكام المادة (59 أولا) التي تنتهي بنا الى اعتماد جلسة باغلبية عدد اعضاء مجلس النواب (165 في الدورة الحالية لمجلس النواب).

مع عد فشل انعقاد الجلسة الاولى معبرا لانعقاد الجلسة الثانية بناء على معيار واحد هي “الاغلبية المطلوبة”.

ولاشك أن اعتماد هذا الحل يعني من بين ما يعنيه، إنهاء معضلة الثلث المعطل وفسح المجال امام ظهور نظام سياسي وبرلماني يضمن معادلة الحكم والمعارضة.

ثالثا: العدول عن قراراتها المتعلقة بالمادة (72/ ثانيا/ ب)، إذ سبق للمحكمة في تشكيلها القديم ان افتت في قرارها 51 / إتحادية/ 2010:

1.ان الفقرة ثانيا من المادة (72) من الدستور قضت بأستمرار رئيس الجمهورية بممارسة مهامه الى ما بعد انتخابات مجلس النواب الجديد واجتماعه، على ان يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال ثلاثين يوما من تاريخ اول انعقاد لمجلس النواب.

2. وحيث ان النص المتقدم او غيره من النصوص الدستورية لم تنص على حكم في حالة عدم التوصل الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال المدة الموصوفة البالغة ثلاثين يوما من تاريح اول انعقاد لمجلس النواب، وهذه المدة تنظيمية وليست مدة سقوط مبدأ انتخاب رئيس للجمهورية.

3. وحيث لم يرد نص في الدستور يحول دون استمرار رئيس الجمهوري من ممارسة مهامه لحين انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

4. وحيث ان مصلحة البلاد العليا تقتضي ان يكون هناك رئيس المهام المنصوص عليها في الدستور .

إلا أن المحكمة بتشكيلها الجديد عدلت عن قرارها السابق اعلاه واعتبرت في قراراها 23 وموحداتها 25 / إتحادية / 2022 حينما نص القرار على الاتي”.

1.     إن مدة الثلاثين يوما هي مدة دستورية حتمية تلزم انتخاب رئيسا جديدا للجمهورية خلالها وعدم تجاوزها.

2.     ان تجاوز تلك المدة وعدم انتخاب رئيسا جديدا للجمهورية يوجب إيجاد مخرجا لذلك التجاوز بما يضمن انتخاب رئيس للجمهورية

3.     لم يعالج الدستور حالة مضي تلك المدة وعدم انتخاب رئيس الجمهورية خلالها.

4.     يتم انتخاب رئيس الجمهورية خلال فترة وجيزة تتناسب مع ارادة المشرع الدستوري والمصلحة العليا للشعب التي توجب استكمال تشكيل السلطات الاتحادية، ضمن الاستحقاقات المنصوص عليها في الدستور.

كما سبق للمحكمة الاتحادية ان اصدرت بيانا لها قالت فيه ان الامر الولائي رقم (1) في 13/1/2022 المقدم ضمن الدعوى الخاصة بالطعن في صحة اجراءات جلسة مجلس النواب في 9/1/2022 لايؤثر على سريان المدد الدستورية بخصوص اكمال بقية الاستحقاقات الدستورية والمتمثلة بالموعد الاقصى لانتخاب رئيس الجمهورية، وهي ثلاثون يوما حسب المادة (72//ثانيا/ب) من الدستور. وهذا البيان اقرار من المحكمة بالمدد الدستورية وحدودها القصوى.

الحل: مع ان المحكمة الدستورية قد عدلت في قرارها 23 وموحداتها 25/ اتحادية /2022 عن القرار السابق 51/إتحادية/ 2010 وعدت ان المدة المنصوص عليها في المادة (72/ثانيا/ب) هي مدة دستورية وليست تنظيمية، إلا انها لم تضع جزاءات لتجاوز هذه المدة الدستورية، بل وزادت الامر غموضا حينما وضعت عبارة هلامية بضرورة انتخاب رئيس جمهورية جديد خلال (مدة وجيزة) لاسيما وان قرارات المحكمة الدستورية هي الحد الفاصل ما بين الغموض والوضوح وهي الملجأ الاخير، وبالتالي ليس لها ان تزيد المختلف عليه اختلافا، بل من واجباتها ان تكشف الغامض وتفك خطوط الاشتباك بين المختلفين.

وعليه إذا كنا نتفق بان قرارات المحكمة هي كاشفة وليست منشئة، فان لها سلطة تقديرية في اللجوء الى النظرية العامة في التقسير الدستوري والاستعانة بقواعد التفسير عند فقدان النصوص، وان عدم التزام مجلس النواب بالمدة الدستورية الواجبة بقرار المحكمة 23 وموحداتها 25/ إتحادية /2022 سيؤدي بالضرورة الى فقدان المجلس لعنصر المشروعية الدستورية، وأن فقدانه لهذا العنصر سيقود حتما الى حله على نحو غير مباشر .

إن النص الدستوري ليس تمرينا لغويا، بل هو يرتد في الفعل السياسي، بمعنى آخر ينبغي للفعل السياسي ان يكون على استواء مع النص الدستوري لا ان يقفز عليه كما فعل مجلس النواب .

وأن احترام هذه المدد الدستورية هو واجب عيني يتريتب على خرقها مسؤولية جزائية واضحة ومحددة من اجل اجبار السلوك السياسي على الخضوع للنصوص الدستورية والقانونية كجزء من مشروعية النظام السياسي باكمله.

الخاتمة:

إن الدعوة لانتخابات مبكرة هي دعوة غير مكتملة مالم يصاحبها اتخاذ قرارات حاسمة من قبل المحكمة الاتحادية بالعدول الدستورية عن قرارتها السابقة المتعلقة بالمواد (70، 72، 76) من الدستور، كما هو مبين اعلاه، ومن دون تلك العدول الدستورية، فإن اجراء الانتخابات المبكرة ليست الا ترحيل للازمة السياسية من دون حلها على نحو جذري.

د. باسل حسين: رئيس مركز كلواذا للدراسات وقياس الرأي العام العراقي

أقرأ أيضا