ساهمت الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي شهدها العالم في منتصف القرن العشرين بضرورة الاهتمام بمتطلبات الحياة التنموية للمجتمعات، والتي تحقق الشرعية السياسية وتعزز الاستقرار للنظام السياسي.
والتطور التكنولوجي بصورة خاصة أحرج الكثير من القادة والقابضين على السلطة في دول العالم المتأخر، ومنها العراق على الرغم من اعتماد الكثير من الأنظمة السياسية على مبادئ “الشرعية الدستورية” التي تعكس حالة قبول المجتمع بالنظام السياسي ومؤسساته وتمنح المبرر القانوني لأي اجراءات تتخذها مؤسسات النظام السياسي، إذ جعلتهم أمام أزمة جديدة تتمثل بأزمة الشرعية الانجازية، والتي نَعدها العنصر الآخر للشرعية السياسية، والتي تعكس حالة رضا المجتمع اتجاه النخب السياسية وضامنة لديمومة واستقرار النظام السياسي، وتتمثل الشرعية الانجازية بما يقدمه النظام السياسي ونخبه من مشاريع وحاجات أساسية وكمالية ورفاهية على جميع الأصعدة.
كما أن تدني مؤشرات الشرعية الانجازية تعد مؤشراً على ضعف بنية النظام السياسي وفشل ادائه، وبالتالي سوف تكون الدولة غير مستقرة من خلال اتساع مظاهر تعكس عدم رغبة المجتمع بالنظام السياسي ونخبه كـ”تصاعد الحركات الاحتجاجية والمقاطعة الانتخابية والعنف السياسي”، وهذا ما يفسر اتساع حركة الموجة المضادة للديمقراطية، إذ أن الآليات الديمقراطية “الانتخابات والتداول السلمي والمشاركة السياسية” لم تعد كافية لتحقيق رضا المجتمع، وهذا عكس ما ذهب إليه “تشي جيفارا” الذي قال “لا يمكن أن تنجح الثورة ضد حكومة جاءت إلى السلطة عبر شكل من أشكال الصوت الشعبي وتحتفظ بشرعية دستورية ولو ظاهرياً”، فشرعية القبول أو الشرعية الدستورية كما يطلق عليها، لم تعد كافية لاستقرار وديمومة النظام السياسي، كما ذهب إليه جيفارا، ربما قد يكون تصوراً صحيحاً في ظرفيته “الزمكانية”، والأمر ببساطة يعود إلى تصاعد الوعي السياسي لدى المجتمعات المتأخرة ومنها العراق، بقبال ضعف أو عدم قدرة النظم السياسية على التكيف مع المتغيرات الداخلية والخارجية.
إذن فاننا لو أردنا تحقيق الاستقرار السياسي للعراق فعلينا تعزيز الشرعية الانجازية والتي وصفها “كارل دويتش”، بأنها “محصلة عمل النظام السياسي والنتائج التي تحققت فعلاً من خلال سلوك وحركة النظام، مع الأخذ بعين الاعتبار مقدار التكلفة التي تحملها النظام في سبيل إحراز وتحقيق هذه النتائج، ودور النظام وأهميته في متابعة وتحقيق القيم “الحاجات والخدمات” التي يتطلع إليها المجتمع في كل وقت فضلاً عن قدرته على متابعة قيم جديدة في المستقبل”، وبهذا الصدد تحدث المفكر الاسلامي محمد الصدر (ره)، قائلا بأن على الدولة أن تقدم الحاجات العامة طبقاً لمصلحة مجموع الشعب المحكوم، وهنا تكون الدولة عادلة، لا يستوجب وجود المتاعب ضدها، لأن الشعب يريد أن يرتاح تحت ظل حكومته، فإذا وفرت له الراحة ، وأحس الناس بذلك ، فلا معنى للثورة ضدها.
ومن خلال ذلك نفهم أن الشرعية الانجازية تحتل المقام الأول في ذهن المجتمعات، لكونها تتعلق بحياتهم وطريقة معيشتهم كمدخل رئيس لتحقيق الاستقرار المجتمعي والسياسي، فالنظام السياسي العراقي بعد ٢٠٠٣ على الرغم من تمتعه بمبادئ شرعية القانون (الدستور، الانتخابات، التعددية الحزبية، التداول السلمي)، إلا أنه لم يحقق الشرعية الانجازية التي تتعلق بمعايير جودة حياة المجتمع بشكل عام، ويمكن بيان ذلك من خلال ارتفاع معدلات البطالة بسبب ضعف القطاع الصناعي والزراعي، وارتفاع نسب الفقر بسبب سوء التوزيع، وصعود نسب الأمية بسبب تدني المؤسسات التربوية، وازدياد معدلات اليتم ومعدلات الفساد، فضلا عن، ضعف البنى التحتية الخدمية والصحية وغيرها، وبذلك يمكن تصنيف النظام السياسي العراقي كنظام متدني الشرعية لأنه لم يحظ بدرجة عالية من رضى المجتمع بسبب قلة أو ضعف الخدمات العامة.
لذا يجب على النخب السياسية القابضة على السلطة أن تتوجه فعلا ً للمجتمع من خلال الاهتمام بمتطلبات جودة الحياة عبرَ برامج حقيقية واقعية يمكن تطبيقها وتحقيقها بشكل سريع، والا فسيكون الارتداد السلبي عليها حاضراً ومبالغا فيه.
أكاديمي وباحث سياسي