في العراق الجديد كما كان يسمى عراق ما بعد 2003، والذي انطلقت عمليات تشييده بعد نهب مؤسساته وحل جيشه واجتثاث كل ما يمت للنظام السابق بصلة، ليكون الهدف بناء نظام ديمقراطي من اشخاص ومجاميع “معارضين للنظام السابق” كما أحبوا ان يسموا أنفسهم لتنطلق عمليات نهب لثروات البلد بما يزيد عن 1000 مليار دولار تصاحبها عمليات نهب لأرواح ابنائه، تاركة ملايين الارامل والايتام فتستمر من تموز 2003 الى يومنا هذا بتشكيل مبهم لا تعرف له هوية ولا انتماء، وبعد دراسة كل ما جرى نجد ان السبب هو استخدام ممارسات مرفوضة أخلاقيا لبناء مؤسسات تهدف لخدمة المجتمع.
ان الممارسات المرفوضة أخلاقيا هي سلوك يمارسه الافراد ليس محظورا بموجب القانون في العراق، لكنها تستحق الرفض الأخلاقي.
عادة يتبنى المجتمع سلوكا معينا او نظرة أخلاقية حول الشؤون العامة لتكون مستقبلا اطر عمل تنظم الواقع معتمدة على بعض القوانين والقرارات والتعليمات، لا سيما وان العرف الاجتماعي هو أحد مصادر القانون، وبالتالي السياسي المستورد كمشرع لا يمكن ان يكون له المام بالأعراف الاجتماعية للبلد لذلك رأى الشعب سلوكيات تمارسها الطبقة السياسية لا تمت للمجتمع بصلة ومثالها نهب المال العام والخاص.
وهنا أحاول ان اعرض أبرز هذه السلوكيات المشكوك فيها أخلاقيا واختصرها بـ5 مؤشرات تدل على الفساد “والذي يتشكل مفهومه من استغلال سلطة ممنوحة لتحقيق منفعة خاصة” في أي مؤسسة كانت وهي: استخدام النفقات الاحتياطية، المحسوبية وركائزها الثلاث “المحاباة والمسايرة والمجاملة” –الباب الدوار– قوى الضغط “اللوبي”، صراعات محددة للمصالح واشكال استعمال المعلومات ذات الأفضلية.
1- إن استخدام النفقات الاحتياطية وتسمى بذلك لأنها تتكون من مبالغ مالية من ميزانية الدولة، قد تكون مخصصة لبعض موظفي القطاع العام لاستعمالها حسب تقديرهم غير المعلن وتخضع لضوابط غير فعالة، هذا ان وجدت الضوابط، وهنا تكمن الخطورة.
في الواقع هناك بلدان تحافظ دولها على سرية بعض النفقات المتعلقة بالأمن الوطني او المبالغ التي تهدف الى تسهيل اختراق تجاري في بعض الأسواق، إضافة الى انه يجب ان تتمتع الحكومة المعاصرة ببعض المرونة في تنفيذ الميزانية العامة، ومعها ميزات السرية وحرية التقدير ورقابة غير كافية او انعدامها كليا وهذا يفتح طريق للفساد خصوصا في بلد مثل العراق فيه منافذ كبيرة مثل: مزاد العملة والبترودولار ومبالغ المنافع الاجتماعية وهي مبالغ طائلة أدت الى الاثراء غير المشروع لبعض موظفي القطاع العام.
2- المحسوبية ويقصد بها ممارسة لتفضيل اشخاص معينين على اخرين لأسباب متعددة من التمييز، وتكون المحسوبية بـ 3 اشكال هي المحاباة والمسايرة والمجاملة يمكن ان تحدث في القطاع العام والتعاونيات المشتركة.
فالمحاباة وتعني منح أقارب او زوج او زوجة افضلية على الاخرين، والمحاباة مبدئيا هي معارضة للأخلاق، لأنها نتيجة مكاسب او مناصب مبنية على عوامل لا يمكن للناس التحكم بها لا سيما وان اغلبها تكون خارج المؤهلات المطلوبة للحصول على هذا المكسب او المنصب.
اما المسايرة وتعرف في مجتمعنا “الاحتضان او الرعاية او الاستبداد”، ويقصد بها ان الشخص الذي يتمتع بوظيفة عامة او بمنصب سلطوي، او قد ينال ذلك مستقبلا، يستخدم السلطة المكتسبة ليعوض على من وفر له الدعم السياسي او المكاسب التي تلقاها من شخص او كيان معين. وقد يشترط لتوفير تلك المكاسب دعما سياسيا او تصويتا للمستفيد.
بينما المجاملة وهي تتعلق بالممارسات التي تفضل صديقا او اي شخص اخر له علاقات اجتماعية سابقة، واعطاءه منصبا او عملا حيث أيضا يحق ان يتنافس فيه أشخاص اخرون، وان المجاملة هي علاقة بين طرفين تفترض الحفاظ على أواصر الصداقة، مما تؤدي بالمقابل الى الحاق الضرر بأشخاص ليس لديهم هذا النوع من العلاقة وقد يكونوا متمتعين بمؤهلات أفضل وأكثر لتولي هذا المنصب.
هنا اود الإشارة الى ان الرئاسات الثلاث ومكاتب الوزراء وحسب التسلسل نزولا تمتاز بالمجاملة وتبديل الموظفين يخضع لوساطات قوية من قبل الحزب او الكتلة او المنطقة التي ينتمي لها رأس الهرم، ولا يعتبرون ذلك مستهجن أخلاقيا او غير قانوني بل على العكس، هم يفضلون ان يكون المرء عضوا في مجموعتهم (حزب-عشيرة – منطقة) وان عدم اختياره هو المرفوض.
وللأسف ان العراق تجاوز ذلك بسبب التاريخ النضالي للمسؤول ليجلب معه زميله المحكوم معه في نفس القضية وقضى معه أيام السجون ومخيمات اللجوء.
3- الباب الدوار: هو مصطلح تمت صياغته في العام 1980 لوصف ممارسة مفتشين عامين يتم التعاقد معهم بعد تركهم الخدمة في القطاع العام من قبل الشركات نفسها التي كانت خاضعة لرقابتهم، ومثال ذلك يتقاعد كبار ضباط القوات المسلحة الامريكية في وقت مبكر لكي ينالوا وظائف مربحة في مجال التسلح في الشركات التي كانت تخضع لإشرافهم، وبشكل مشابه مسؤولون من الهيئة العامة التي تشرف على المصارف في اليابان وظفتهم المؤسسات المالية نفسها التي كانت سابقا تحت اشرافهم ورقابتهم.
هذه الممارسة يمكن ان تؤدي الى الظاهرة المعروفة باسم “اسر المراقب” أي ان يصبح هؤلاء المفتشون أكثر مرونة في رقابتهم على المؤسسة بسبب أملهم في المستقبل الحصول على وظائف تدر دخلا كبيرا.
ويمكن ملاحظة ذلك من خلال متابعة المفتشين العموميين وأماكن عملهم بعد مغادرة المنصب، او النواب بعد انتهاء دورتهم يصبحون مستشارين وهكذا.
4- اللوبي: وهو محاولة التأثير على أولئك الذين عليهم اتخاذ القرارات التي يمكنهم ان يتبنوها سلبا او إيجابا على عضو اللوبي او ناخبيهم، عندما تتم محاولة للتأثير على القرارات التي تتخذها السلطات العامة المنتخبة ديمقراطيا، وهذه تدعى قوى الضغط السياسية “لوبي سياسي”، كالمطالبة بقانون العفو العام ومخصصات مالية لشرائح محددة من المجتمع.
اللوبي غير قانوني ومرفوض أخلاقيا في حد ذاته، حيث ان جميع القطاعات وأصحاب المصالح هم على فرص متساوية للتعبير عن مواقفهم امام هيئة ما لصنع قرار. بما في ذلك يعتقد ان اللوبي الفعال لمجموعة ما يمكن ان يتلافى الحاجة الى تكبد ممارسات مذمومة أخرى في المستقبل، كدفع الرشاوى.
ومع ذلك من الناحية العملية يعتبر اللوبي كنشاط للمجموعات القوية “الشركات الكبيرة أو المنظمات الدينية او المكونات الاجتماعية” والتي تضمن ان القرارات العامة من شأنها ان تعزز مصالحها او مكانتها، في حين ان اللوبي يميل الى ان يكون منظما في معظم البلدان مثل هذا الانضباط إذا كان موجودا فهو غير كافي لأسباب كثيرة منها انعدام الشفافية.
5- تضارب المصالح وإساءة استخدام المعلومات ذات الأفضلية الخاصة: ان الافراد ومنهم موظفو القطاع العام لديهم عادة مصالح مختلفة، شخصية – اجتماعية –اقتصادية – دينية – سياسية، وبقدر ما تزداد مصالح فرد منهم كلما زاد احتمال تصادمها.
عندما يكون لدى الشخص نفسه أكثر من مصلحتين غير متوافقتين، يحدث ما يسمى “تضارب المصالح” ولذلك هي حالة يمكن لأي شخص ان يقع فيها، الامر السلبي بالتالي ليس كونك في تضارب مصالح ولكن في التصرف بطريقة غير سليمة حين تفضل المصلحة الفردية على المصلحة العامة.
ومن المهم أيضا ليس فقط تجنب صراعات المصالح الفعلية، ولكن أيضا ظهور تضارب المصالح لان الثقة العامة هشة ويمكن أيضا ان تتأثر من أي صراع واضح.
في الواقع الثقة تنمو بشكل بطيء، مثل جذع نخلة ولكن يمكن اسقاطها بسرعة سقوط قطرات الماء، كما اسقطت بساتين النخيل قرب مصفى الدورة ببغداد.
هناك شكل شائع من ممارسة سلبية في حال تضارب المصالح هو إساءة استخدام المعلومات ذات الأفضلية الخاصة، ويقصد بها المعلومات التي لا يتم الكشف عنها للسوق، وتمتلك قدرة التأثير على أسعار معينة، وهنا المعلومات أساسية لحسن سير الأسواق.
في مجتمع ديمقراطي يجب ان يكون جميع العاملين الاقتصاديين قادرين على الحصول على المعلومات ذات الصلة في وقت واحد. من هنا إذا كان الشخص موظف قطاع عام او كوكيل خاص يمثل مصالح عدد من الناس ويستخدم بعلم مسبق معلومات سرية لتحقيق مكاسب شخصية، اذن هنا تضارب المصالح مستهجن أخلاقيا، ومثل هذا السلوك في إساءة استخدام المعلومات يمكن ان يلحق بمن مارسه العقاب القانوني، ومثال ذلك لجان العقود التي تبيع الكلف التخمينية الى شركات محددة (واجهات حزبية- له أسهم فيها).
معظم البلدان تعاقب من يمارس هذا السلوك، لكن للأسف في العراق المراقبة غير موجودة او ضعيفة على هذا التصرف بالرغم انه مرفوض اجتماعيا.
من كل ما ذكر أعلاه يمكن لو تمت مقارنته مع أي تصرف او سلوك اتبعته الطبقة السياسية نجد انه تنطبق عليه احدى النقاط أعلاه وبالتالي هو سلوك مرفوض أخلاقيا واجتماعيا وقانونيا، تحمل المجتمع أعباءه ووصل الحال الى انعدام ثقة شامل وسقوط البلد نحو الهاوية ولا زال أصحاب هذه الممارسات يسعون لبناء المؤسسات، حيث لا يمكن بناء دولة مؤسسات دون ممارسات فضلى وسلوك منهجي يترك اثرا إيجابيا في المجتمع.