مر 22 عاما على دخول جحافل الغزو الامريكي البريطاني للعراق، بقيادة جورج بوش الابن وتابعه توني بلير، والذي توج باحتلال بغداد في 9 نيسان 2003، وهي مازالت تثير بتداعياتها الكارثية المتتابعة حالة مزمنة من التشظي والانحدار وفقدان الاستقلال والسيادة، وانعدام اليقين بما هو معلن وظاهر، والجزع من المستتر والباطن الذي تتواتر معالمه الفاسدة مع كل نوبة صرع جديدة يعاني منها الجسد العراقي المسمم بالحقن البريمري “نسبة إلى الحاكم المدني للعراق الامريكي بول بريمر” بكل فيروسات التآكل، والتفتت، والتبعية، والنهب، والاهدار، والشقاق والنفاق، والفوضى اللاخلاقة، على الرغم من مرور كل هذه السنين واتساع دائرة الناقمين.
كان جو بايدن واثقا من ان تحرير العراق من كيانيته الاقليمية هي مسألة وقت ليس إلا فقد اشار وقتها إلى حتمية تقسيم العراق إلى ثلاث كيانات رئيسية لتفادي تصارعها، الشيعية، والكردية، والسنية، وكأن سياسة فرق تسد هي صناعة مكوناتية عراقية.
الاحتلال الامريكي جاء بمشروع يؤسس لتقسيم العراق إلى كيانات قابلة للتفريخ وبحسب الضرورة الحيوية للمشروع الصهيوني لتقسيم دول المنطقة إلى دويلات مللية وطائفية، لتحل محل الدول الوطنية التي لا تطيق توسع الكيان الصهيوني وعربدته، دويلات متناطحة تجعل من اسرائيل الكيان الاكبر في شرق اوسط جديد، تكون لاسرائيل فيه القول الفصل من النيل إلى الفرات وما حولهما.
حق يراد به باطل
إشاعة الحكم الديمقراطي قولا وفعلا يتطلب قيام دولة المواطنة الواحدة المعتمدة على فصل السلطات بمؤسسات جامعة بسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية للمركزية واللامركزية معا فالسلطات المحلية المنتخبة لها صلاحيات مباشرة تخدم بها مواطنيها باختصاص جزئي يتعاشق مع الاختصاصات الكلية للهيئات المركزية.
دولة السويد مثلا فيها نحو 290 بلدية لكل منها مجلس منتخب يقرر الشؤون الخاصة بالبلدية وينظم عملها قانون الحكم المحلي وتمول نشاطاتها بالضرائب المحلية والرسوم والمنح الحكومية ولكل مواطن الحق بالانتقال من بلدية إلى الاخرى دون النظر لاصله وفصله، ولا يسمح القانون لأي مجموعة قومية او دينية بتكوين كانتونات او فدراليات او مناطق حكم ذاتي، فكل مواطن يعبر عن نفسه في بلديته ومن ثم في مركز مملكته وله الحق باستخدام لغته المحلية، وهذه اسبانيا ايضا دولة تقوم على فكرة المواطنة الواحدة وترفض دعوات الانفصال الكاتلونية، واسبانيا وفرنسا يعارضان وبالقوة تطلعات التنظيمات الباسكية المطالبة بالانفصال، فالمواطنة الواحدة المتساوية في ظل دولة القانون كفيلة بنظرهم، بتحويل حق تقرير المصير إلى حق للاكثرية من المنتفعين، ضمن مفهوم الانفتاح لسوق وطني يجافي التقوقع والانعزال.
دعوة أوجلان لحزب العمال الكردستاني وعموم اكراد تركيا للانخراط في بناء دولة المواطنة الواحدة لكل مواطني تركيا تحمل ذات المعنى، عكس التحريض المغرض لامراء الفتن والصهاينة وشركائهم في الغرب الذين يصبون الزيت على نار الفرقة والتقاتل بذريعة الدفاع عن حقوق الاقليات
ما يحصل في العراق لا يبشر بخير
بيت شيعي وبيت سني وبيت كردي، ورب لكل بيت وهو من يقرر المصير، وكأن المجتمع عبارة عن قطيع لا تسيره نواميس وديناميات الدولة الواحدة اداريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وفي داخل كل بيت كوتات صورية للاقليات، وحتى تسهل عملية حساب الاوزان والاثقال وبالتالي اقتسام المغانم، تجري عملية تنقية مناطق الاختلاط كل بحسب قدرته على سحب البساط من تحت الاخر حتى لو اقتضى الامر الاستعانة بالتدخل الخارجي، فالمناطق المتنازع عليها مثبتة وبلا وجل في الدستور الدائم الذي لا يتغير إلا بقدرة قادر، ناهيك عن تثبيت المكونات كهويات اولية لا قيمة للمواطن العراقي دونها، التطهير العرقي والطائفي تحصيل حاصل وعلى نار باردة تارة واخرى مستعرة، وبحسب الظروف الملموسة، في سهل نينوى وكركوك وديإلى وجرف الصخروالنخيب وسنجار، اما بغداد التي يقطنها السني والكردي والشيعي والتركماني والفيلي والكلداني والاثوري والارمني والمندائي، فقد جرى تقطيع اوصالها، بين حزام وما تحته وفوقه، طبعا بمعزل عن المنطقة الخضراء، التي ارادوها لتكون مكان تختلط فيه وفود ومجالس وسفارات البلاد وامراء المكونات.
في البيت الكردي إمارتان واحدة بقيادة طالبانية واخرى بارزانية، علم ودستور ومجلس أمة وابار نفط وتجارة حرة ومطارات وقنصليات، وجيش موحد ايام الوئام، وجيش خاص بأمير امراء الطالبانية وآخر بأمير امراء البارزانية، فدراليين دستوريا واكثر من كونفدراليين واقعيا، ولولا تركيا وايران، لتنافس الاثنان على اعلان الدولة المستقلة، وفعلا اجرى البرزاني عملية استفتاء عام على اعلان قيام دولة كردية مستقلة شمال العراق وكانت نتائجه مؤيدة للانفصال، واجمع الجميع تقريبا على تسرعه بمعنى تأجيل البت به، عدا إسرائيل التي باركته وعرضت المزيد من الدعم، وهناك معارضة متبلورة لنهج امراء اقليم كردستان العراق قوتها تتعاظم مع مرور الوقت.
في البيت الشيعي امراء متعددون بتعدد ميليشياتهم التي تنافس نفوذ الجيش النظامي المكون من دمج اتباع المتحاصصين من الامراء، واغلبهم يتقاسم الادوار بين متشدد ومعتدل، وهؤلاء يفتعلون ازمات طائفية موسمية مع كل فترة انتخابية لغرض الاستحواذ على نسبة عالية من الحصة الانتخابية، واللبيت الشيعي مرجعيتان الاولى في ايران والثانية في النجف الاشرف وفي المراجعة ايضا هناك تشدد واعتدال وحسب تقلبات المصالح، البيت الشيعي اكثر هلهلة من البيت الكردي ففيه من كل بيدر حبة، فيه الاسلامي الليبرالي وفيه الاسلامي الشعبوي الذي يغري الجمهور بفضح فساد اقرانه وفيه الطائفي المتعصب الذي يريد اقليما شيعيا صرفا يستحوذ على 80 بالمئة من نفط العراق ولا يمانع بالتوحد مع ايران مادام في الامر خدمة لاصحاب المذهب، وفيه اليساري المستشيع والذي يجد بعلي ابا للاشتراكية والحسين ملهما لامثال جيفارا، لكن المتنفذين يمسكون العصى من الوسط فالموازنة عندهم بين مطالب امريكا وايران ستجعلهم الحاكمين على العراق، وحتى حلول ساعة الصفر حيث لابد من الاختيار فانهم يجلدون البيت السني لتحقيق ما امكن من مكاسب تنفعهم في الايام الغبراء التي ستأتي لا محالة.
البيت السني وجد نفسه في مهب الريح بعد تحالف البيتين الشيعي والكردي لهندسة الوضع العراقي، وحاول في البداية مقارعة ما يجري، لكنه انخرط في النهاية بالحسبة الجديدة وكيف نفسه مع الامر الواقع المفروض بقوة الخارج وانتهازيي الداخل، وحاليا تتبعثر توجهات امراء السنة بين المطالبة بالاقليم السني، ومحاولات التحالف مع البيت الكردي لصد تمددات البيت الشيعي !
العراق بيت المواطن:
هموم المواطن عبرت عنها تظاهرات المواطنين المتواترة في الشمال والجنوب وفي بغداد عاصمة الوطن المغدور، وحراك شباب تشرين مازال شاهدا، الهموم هي ذاتها وهي ليست بجدول اعمال امراء المكونات، العيش الكريم، حرية التعبير، العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التنمية الحقيقية الخالية من الفساد والاستبداد، الخدمات الاساسية، كهرباء وماء وصحة وتعليم، عودة المهجرين، رفض الطغيان السياسي للمافيات المتحكمة بقوت ومصيرالشعب، رفض المتاجرة بالنعرات القومية والمذهبية، سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية عمادها الكفاءة والنزاهة، قوانين تنتصر للانسان العراقي بمعزل عن اي اعتبار آخر، للحقوق الطبيعية للنساء والاطفال والشباب بعيدا عن سرديات الانعزال والتقهقر، دولة رشيدة تحتكر السلاح، همهما الاول خدمة المواطن، بوطن يزدهر بلحمته ونموه والاستثمار الامثل لثرواته، وطن محصن بالضد من اطماع المتربصين، والمتصيدين.