صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

العلماني والمدني والديني في برنامج بالحرف الواحد

راعني كثيراً ما شاهدته هذا اليوم من سجال أقل ما يقال فيه أنه سجال غير قائم على أصول علمية ولا فكرية من قبل كل المتحاورين، وانا اتابع البرنامج انتابني شعورٌ باليأس والإحباط لكلا الخطابين المدني العلماني، وكذا الديني الأسلامي، فكلٌ منهما يتصارع لأجل إثبات مدعاه في الحوار من خلال التخطئة والسب والشتم والقذف.

للحوار أدبيات وقاعدة كان يجب على المقدم المحترم أن يتبعها لئلا يقع المحذور الذي نخشاه، وبذا تتشوش ذاكرة المتلقي، لم يعرف المتحاورون قيمة وطن ولا قيمة الهدف الذي من أجله جاؤوا كي يُسمعوا المتلقي ما هي الأطر الوحدوية التي يجب أن تلتقي عليها تلك الأحزاب المدنية والإسلامية، وقد بان لي كم هو حجم الهوة الكبيرة بين هؤلاء والوطن، حتى وإن كان المتحاورين ثلاثة، فكل منهم يمثل خلفه أجندات كانت قد صيغت سلفاً، أسجل ملاحظاتي هذه والكمد في داخلي، وانا أقرأ لـ(طه عبد الرحمن) كتابه روح الدين من ضيق العلمانية الى سعة الائتمانية، فمن جهة اتابع البرنامج بقضه وقضيضه وارجع الى عبارة طه عبد الرحمن التي تقول إن “الدعوى العلمانية التي تشترط الفصل بين العمل الديني والعمل السياسي في نهوض المواطنين بوضع قوانينهم بأنفسهم تُدخِل على الوجود الإنساني شتى الوان التضييق، فقد انبنت هذه الدعوى على افتراضات باطلة، منها  أن إرادة التدبير لا تتجلى إلا في القدرة على وضع القوانين، وأن ارادة الله تتعارض مع أرادة الإنسان، كما انبنت على اختلالات شنيعة في فهم الصلة القائمة بين الله والأنسان… (الى ان يقول:) وتضمنت هذه الدعوى العلمانية كذلك تقريرات فاسدة، منها أن العمل الديني لا يتدخل في الشأن العام، إذ لا تدبير فيه ، وأن العمل السياسي لا يتدخل في الشأن الخاص إذ لا تعبد فيه ، وقد أدت هذه التقريرات إلى أضعاف انوجاد الإنسان بالعالم المرئي بقطع أسباب تواجده بالعالم الغيبي”.. (المصدر: روح الدين من ضيق العلمانية الى سعة الائتمانية ص 236).

فهذا الفيلسوف المغربي ينتقد وبوضوح تلك الرؤية القاتمة من المذهب العلماني ان جاز التعبير ويصفه بالضيق والحنق على الدين وتعاليمه، بحيث تنعدم اللغة المشتركة في هذا الخطاب، ثم جال بصري بعد تتبع البرنامج بحرقة وألم فخرجت من فيلسوف المغرب لأدخل في خانة الفيلسوف المشرقي الأيراني الأصل وهو محمد مجتهد شبستري لأرى المتخاصمين العراقيين في الحوار على أي قاعدة فكرية وعلمية يستندون، فتتبعت أثر هذا الفيلسوف فوجدته ينتقد بروح رياضية وهو اسلامي تلك الحركة الدينية التي تدعي أنها تتحرك في مجال السياسة على نحو التكليف الشرعي وينتقدها بوضوح بعد أن عالجها بمادة علمية وساق عليها أدلة تفصيلية تتناغم وروح الحداثة وآلياتها كالانتخاب والديمقراطية فوجدته يقول: “الإسلام الفقهي الحكومي يتحدث في باب السياسة والحكومة بهذه اللغة تماما أي يقترح على المؤمنين أن يعيشوا في باب الحياة السياسية والحكومة حياة دينية والقراءة الرسمية لا تعرض نظريات وارآء في باب نوع الحكومة وكيفية التخطيط للتنمية وإقامة العدالة كوظائف للحكومة بل تقدم سلسة من الأوامر والإحكام والآداب والمقررات في مجال الحلال والحرام والواجب والمباح على شكل فتاوى تطلب من المؤمنين ان يتحركوا في مجال السياسة والحكومة على غرارها أن أنصار هذه القراءة يتحدثون أحيانا عن مقتضيات الزمان والمكان أو الاجتهاد المتناسب مع الزمان والمكان بمعنى استنباط حكم شرعي جديد بموازاة المتغيرات الزمانية والمكانية في باب سياسة الحكومة وتشخيص العمل الفلاني الجديد في عالم السياسة والحكومة اهو مباح أو غير مباح؟ واجب أو حرام ؟ أن هذا النمط من التفكير يقوم على أساس مفهوم (التكليف الشرعي).. ثم يضيف: أننا في العصر الحاضر لا يمكننا التحدث بلغة التكليف في باب السياسة والحكومة فالمجتمعات الإسلامية قد دخلت عصر الحداثة بالفعل سواء أرادت أم لم ترد وان السياسة والحكومة في عصر الحداثة يرتبطان بالعلم والفلسفة وانتخاب الإنسان ومن هذه الجهة فان جميع المجتمعات الإسلامية ومنها مجتمعنا الحالي لا يمكنها ان تتحرك في حق السياسة والحكومة بمنطلق التكليف الشرعي”. (كتاب قراءة بشرية للدين، د. محمد مجتهد شبستري ،ص92)

وفي كلا هذين المقطعين وجدت كم هو الفارق الفكري والعلمي بين انتقاد هؤلاء وبين انتقادنا وكم هي الهوة السحيقة بيننا وبينهم في الفكر والعلم والمعرفة، فخلصت الى نتيجة مؤداها بعد تتبعي للبرنامج ضحالة وتدني مستوى الأفكار التي يطرحها مدعو الوعي او بصراحة أكثر جدلا مدعو العلمانية والإسلام. وهنا ينتابك شعور باليأس والإحباط من أن بلدا يُملأ بأفكار فارغة المحتوى والمبدأ كيف تقوم له قائمة. لقد ضاع ويضيع بين هذا التفكير الساذج، طريق الحوار المشترك، وسيبدأ مع كل تنافس انتخابي وسيساهم التشهير والتسقيط والقتل المعنوي أيما مساهمة، عندها اقول ما قاله السياب:

لك الحمد مهما استطال العذاب، ومهما استبد الالم.

أقرأ أيضا