صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

العنف في سوريا انعكاس لإرث عقائدي

إن العنف الممنهج الذي شهدتهُ سوريا خلال الأيام الماضية والذي استهدف الطائفة العلوية بمجازر جماعية وعمليات إعدام ميدانية ترتقي لمستوى “جرائم ضد الإنسانية” هي بالحقيقة ليست وليد اللحظة أو مجرد فعل سياسي انعكاسي، بل هي نتاج مباشر لفكر عقائدي متأصل في التيارات “السلفية الجهادية”، هذا الفكر الذي يستند إلى تراث طويل من الفتاوى التكفيرية يضع الطوائف المخالفة ضمن دائرة (الكفر والشرك) ويعتبر تصفيتهم واجبًا شرعيًا، لذا فالفكر السلفي الجهادي هو بالضرورة يمثل منظومة للإبادة والتصفية العقائدية.

ولإدراك عمق المشكلة بشكل أكبر وأوضح يجب العودة إلى المرجعيات الفقهية التي تستند إليها هذهِ الجماعات والتي أصبحت اليوم تمثل السلطة في سوريا وهي (هيئة تحرير الشام) التي تكونت من فصائل إسلامية “سلفية جهادية” أبرزها “جبهة النصرة التي كانت تُعتبر الفرع السوري لتنظيم القاعدة” و”حركة نور الدين الزنكي” و”جماعة أحرار الشام” و”جبهة أنصار الدين”و”جيش السنة” وفصائل أخرى ذات توجهات “سلفية جهادية” تعتقد بتكفير الأنظمة الحاكمة كما يعتقدون بضرورة الجهاد لإقامة “دولة إسلامية” وفقًا لتفسيرهم المتشدد للشريعة.

أحد أهم الأسماء والذي يُعتبر مرجعاً مهماً في الفكر السلفي الجهادي الذي تنتمي له الفصائل المنطوية في “هيئة تحرير الشام” هو (ابن تيمية) أبرز المنظرين للفكر التكفيري و الذي قدم مجموعة من الفتاوى التكفيرية شكلت قاعدة شرعية للتنظيمات المتطرفة أبرزها  تكفير “العلويين” في كتابهُ “مجموع الفتاوى” (ج 35، ص 145)، قال ابن تيمية: “هؤلاء القوم (العلويون) كفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل من كفر كثير من المشركين.” واعتبرهم أيضًا في مواضع أخرى من كتبه أنهم من “أعداء الإسلام” ويجب محاربتهم.

 كما اعتبر ابن تيمية، الدروز والإسماعيليين من الفرق الباطنية في “مجموع الفتاوى” (ج 35، ص 161)، وقال عنهم: “هؤلاء الزنادقة المرتدون عن الإسلام أكفر من اليهود والنصارى”، وحتى “الأشاعرة والماتريدية” لم يسلموا منهُ رغم أنهم يُعتبرون من أهل السنة والجماعة في كثير من الآراء إلا أنه اتهمهم بالضلال في قضايا العقيدة.

شكلت فتاوى “ابن تيمية” قاعدة شرعية لتبرير العنف ضد الطوائف المخالفة في العقيدة و تبنّت الجماعات السلفية الجهادية هذه الفتاوى في هجماتهم ضد الأقليات الدينية والمذهبية إذ تُصنّفهم هذهِ الفتاوى في مرتبة “الكفر البواح” الذي يوجب القتل والسبي.!

إن “احمد الشرع” الذي يمثل رأس السلطة اليوم في سوريا، والمكنى سابقًا “أبو محمد الجولاني” قد يحاول أن يمثل نموذجًا منفردًا لتطور الفكر الجهادي التكفيري بدءًا من انضمامهُ إلى تنظيم القاعدة مرورًا بداعش وثم جبهة النصرة وصولًا إلى “هيئة تحرير الشام” والى السلطة اليوم وعلى رغم محاولاتهُ في تقديم صورة أكثر “اعتدالًا” سياسيًا إلا أن الأساس العقائدي لم يتغير بمنهجية أتباعهُ وشركائهُ في السلطة فهم لا يزالون بذات التبني إلى النهج التكفيري الذي يُحرّم التعايش مع من يُعتبرون “كفارًا”.!

إن المجازر الأخيرة بحق العلويين تجسد هذا الفكر الدموي حيث تمت عمليات إعدام ميدانية طالت حتى النساء والأطفال، في مشهد يذكّر بممارسات “داعش” في ذروة سطوتها كما إن محاولات التنصل من المسؤولية عبر إلقاء اللوم على الفصائل الأجنبية كـ”الأوزبك والإيغور” أو بتهمة “فلول للنظام السابق” ما هي إلا محاولة واضحة للتملص من واقع أن جميع الفصائل المسلحة المنطوية تحت (هيئة تحرير الشام) هي بذات التبني لذات النهج الفكري الاسلاموي والعقائدي والفتاوى وإن استخدام البعد السياسي لتبرير الإبادة هي تعد قراءة قاصرة يعول البعض عليها في التضليل لأن الفكر الاسلاموي وبالأخص “السلفي الجهادي” يُجذّر فكرة التكفير على أساس طائفي محض وهذا يوضح أن العداء “للعلويين” ليس وليد “حكم الأسد المخلوع” أو النظام السوري ما هو إلا امتداد لفكر تكفيري يستند إلى مرجعيات عقائدية تؤمن بها الجماعات آلتي هيمنت على السلطة اليوم في سوريا وترى فيهم “كفارًا أصلاء”

ولا يقتصر الأمر على العلويين فقط، فالدروز والأقليات الأخرى أيضًا في مرمى الاستهداف، حيث يعتبرهم الفكر والخطاب السلفي الجهادي “كفارًا” تجب تصفيتهم.

إن ما يطرحه “احمد الشرع” اليوم من خطاب عن فكرة لمشروع دولة يختلف بشكلٍ عكسيًا مع فكر من ساروا معهُ إلى السلطة عندما كان “أبو محمد الجولاني” وعن حقيقة أدبياتهم ومتبنياتهم في تحقيق مشروع إمارة دينية قائمة على التصنيف العقائدي وإقصاء الآخر هذهِ المنظومة المحيطة “بالشرع الجديد” لا يمكن أن تُنتج دولة مدنية أو نظامًا سياسيًا تعدديًا، بل ستبقى رهينة الفكر “السلفي الجهادي” بفتاوى (ابن تيمية) الذي يرى في السيف والدم أداة “لتثبيت الحكم” واستقرار السلطة.

و استمرار هذه المجازر في سوريا بلا رادع دولي أو إقليمي ومع خطاب “احمد الشرع الجديد” سيؤدي حتمًا إلى انشقاقات داخل السلطة وحرب أهلية طاحنة تتجاوز حدودها وتمتد لتشعل فتيل النزاع في المنطقة فإن الاعتقاد الدائم لدى شخصً مثل (الشرع الجديد) أو غيرهُ بان الحركات الاسلاموية الجهادية قادرة على التطور ومواءمتها مع الحداثة وطرحها كسبيل لتحقيق الاستقرار هو خطأ استراتيجي يتكرر في كل تجربة حكم تسيطر عليها هذهِ الجماعات الاسلاموية لان فتاوى الفقه و التكفير أسست لمنهج عقائدي صارم يمثل ركيزة ولبنه أساسية لفكرة الإسلام السياسي الذي يلغى فكرة الأخر والمختلف وكلن يصنف نفسه على انه الفرقة الناجية.

أقرأ أيضا