الفساد نوعان: الأول قانوني يتم عبر استخدام النصوص القانونية للاستيلاء على المال العام، وهو فساد مباح قانونا، ذلك أن القانون هو من يضفي عليه شرعية، ويمنع القضاء من الوقوف بوجهه، والأمثلة كثيرة على هذا النوع، مثلا: منح بعض الفئات رواتب ومخصصات ونثريات كبيرة وغير معقولة، كذلك وجود نصوص قانونية تبيح للدولة الانفاق على جهات خارج الدولة، كقانون الأحزاب السياسية الذي أجاز منح الأحزاب التي تملك وضعا قانونيا خاصا مبالغ مالية، تحدد قيمتها وفقا لمزاج المسؤول المعني. النوع الثاني من الفساد هو الفساد غير القانوني، ومن أمثلته سرقة المال العام، الاختلاس، الاستيلاء على أموال الدولة غير المنقولة.. وهذا النوع من الفساد، تدعي الدولة عبر مؤسساتها المختصة، بمحاربته ومكافحته، حيث تنفق سنويا مبالغ مالية طائلة على موظفين ومكاتب ودوائر حكومية، وظيفتها الحد من الفساد المالي والاداري. نفس هذه الدولة، تقر بوجود منافذ أخرى للفساد، منافذ كبيرة جدا، ابتلعت ولازالت تبتلع مساحات واسعة من خزينة الدولة، دون أن يحرك أحد ساكنا، عدا تصريحات لمسؤولين كبار، كرئيس البرلمان والحكومة، ووزراء، بأن الدولة عاجزة عن الوقوف بوجه تلك المنافذ والفجوات. ولا شك، أن اكتفاء أولئك المسؤولين بالكلام دون الفعل، يعني ضمنا أنهم موافقون عليها، ولا يريدون وضع حد لها.
منافذ بيع العملة الصعبة في البنك المركزي، أي مزاد العملة الذي يعد فجوة كبيرة وخطيرة ابتلعت ولازالت أموال الدولة، وخلقت سياسيين فاسدين، استطاعوا أن يدخلوا ميدان السياسة عبر تلك الأموال التي حصلوا عليها جراء مزاد بيع العملة، حيث كوّنوا مصارف أهلية، استأثرت بالحصة الأكبر من المزاد والدخول في عمليات بيع وشراء الدولار والاستفادة من فرق السعر بين عملية الشراء من البنك المركزي وبين بيعه في السوق للمواطنين. وهذه العملية برمتها قائمة على كذبة كبيرة، يعرفها الجميع، لكنهم يصدقونها في العلن. تلك الكذبة هي استخدام المبالغ التي يتم شراؤها من البنك المركزي في استيراد بضائع معينة. والكل يعلم أنه يتم استخدام فواتير استيراد مزورة، وغير صحيحة، لكن لا أحد يتحرك ساكنا. فهل الصمت على هذا الفساد المباح، أمر طبيعي؟ أمثلة أخرى كثيرة على الفساد المباح، الذي لا يقل خطورة وبشاعة عن الارهاب. مسألة المنافذ الحدودية، لم تتم معالجتها إلا قبل أيام، عندما قرر رئيس مجلس الوزراء، والوفاء بوعده الذي قطعه على نفسه، عندما أرسل قوات امنية مختصة إلى عدد من المنافذ الحدودية لغرض فرض سلطة القانون عليها وهو ما تحقق فعلا، ولا زالنا ننتظر منه أن يفرض سيطرة القانون على جميع المنافذ. إن هذه العملية ليست كافية وحدها، فلابد من مصارحة الشعب، بمصير الأموال التي كانت تذهب إلى جيوب شخصيات وأحزاب، والكشف عن أسماء تلك الأحزاب ومن يقف خلفها ومن يسهّل لها سيطرتها على المنافذ الحدودية.
للأسف الفساد المباح، لا نجد من يحاربه، مثلما تتم محاربة الفساد غير المباح، الذي هو فساد أصغر، فساد يصدر من موظفين صغار، لا يملكون سندا من أحزاب ولا من سياسيين، مارسوا أفعالا هي مجرمة قانونا، لكن الدافع لها ليس جرميا، بقدر ما هو إهمال وتقصير، قد يستحقون عليه عقوبات انضباطية فقط، خصوصا إذا لم يوجد هدر في المال العام. فهل سنرى يوما انشغال الجهات المختصة بالفساد المباح وبنفس الهمة والرغبة التي تتوفر لديهم في مواجهة الفساد غير المباح؟