أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ إنجيل متى (5: 13).
قمة جبل الجليد
كشف هروب رئيس ديوان الوقف السني المُدان بتهم فساد سعد كمبش من سجنه، ثم وإلقاء القبض عليه ووفاته بعد ساعات خلال مطاردته، كشف عن وجه آخر من أوجه الفساد المالي والإداري المستشري في جميع مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها ومنها المؤسسات والهيئات الدينية التي تعتبر مستقلة دستوريا يمكن تسميته بالفساد “المقدس” لأنه يتعلق بإدارات الأوقاف الدينية، هذا أولا، ولكنه أيضا، وهذا ثانيا قشط الطبقة المعنوية “الدينية” الرقيقة التي كانت تغلف هذا الفساد كاشفاً عن عمق التخادم “تبادل الخدمات والحماية” بين مؤسسة الحكم السياسية والمرجعيات الدينية الداعمة لها سرا وعلانية، وخصوصا في الأزمات الحادة، مقابل سكوته على فسادها!
منذ انطلاق “العملية السياسية الأميركية” القائمة على المحاصصة المكوناتية بعد احتلال العراق، وخلال عشرين عاما، تحول بعض هذه المؤسسات والمشاريع التابعة للأوقاف والعتبات الدينية إلى نوع من جُزُر اقتصادية إقطاعية شبيه بالاقتصاد الكنسي الذي كان سائداً في أوروبا القرون الوسطى أو حتى بالإقطاع العسكري في زمن الدولة العثمانية. ولم تكن عامة الناس غافلة عما يحدث في الأوقاف وفي المؤسسات الحكومية الأخرى من فساد ونهب للمال العام بلغ درجة من التباهي بارتكابه والتنافس في تحطيم أرقام المبالغ المنهوبة والتي توجت بما أطلق عليها “سرقة القرن” والتي بلغت مليارين وخمسمائة مليون دولار. وقد هتف متظاهرون سلميون عراقيون حتى قبل انتفاضة تشرين 2019، بشعار أغضب المؤسسة الدينية والأحزاب التي تستظل بعباءتها يقول: ” باسم الدين باگونا “سرقونا” الحرامية “، حيث بلغت ممتلكات واستثمارات الأوقاف والعتبات الدينية في العراق مليارات الدولارات، لا يعرف أحد كيف تدار وأين تذهب. وتشمل تلك الممتلكات والاستثمارات مصانع ومزارع شاسعة ومؤسسات خدمية من المستشفيات والجامعات والمطارات وشركات استيراد وأرصفة مستقلة في الموانئ…إلخ.
إنها مؤسسات ربحية على الأرض، ولكنها على الورق وفي أنظمتها الداخلية مؤسسات معنوية مستقلة غير ربحية لا تدفع ضرائب أو رسوماً كمركية للدولة وتتمتع بالأولوية والأفضلية في المعاملات والمقاولات، ولا تخضع للمراقبة والتفتيش المباشرين من طرف دائرة الرقابة المالية والضريبية، ولكنها كما تزعم تدقق حساباتها بنفسها بمشاركة مدقق خارجي “من خارج وزارة المالية” تختاره هي، كما انها تُسَخِّر أجهزة وآليات وإمكانيات دوائر الدولة لمصلحتها.
هذا ما يجعل هذه العتبات والأوقاف أشبه بالدويلات المتضخمة داخل الدولة وعلى حساب الثروة الوطنية والمال العام، بل إنَّ بعضاً منها أصبح محمياً بمليشيات مسلحة تابعة له عقائدياً، تضم آلاف المقاتلين. مثال ذلك نجده في “حشد العتبات” المؤلف من أربع فرق مقاتلة، تضم عشرين ألف مقاتل. كانت هذه الفرق قد انفصلت عن كيان الحشد الشعبي المشرعَن دستوريا. ليتبعه هذا الأخير – الحشد الشعبي – في الدخول إلى الميدان الاقتصادي بعد أقل من عام. ففي نهاية تشرين الثاني 2022، وافق مجلس الوزراء العراقي على طلب “هيئة الحشد الشعبي” تشكيل شركة عامة باسم شركة “المهندس”. وستكون هذه الشركة ذات رأسمال بدئي قدره مئة مليار دينار عراقي، بما يسمح للحشد بالدخول بشكل أكثر وضوحاً ومباشرة في النشاط الاقتصادي والاستثماري في البلد.
والواقع فإن إنشاء شركة حكومية للهندسة وأعمال البناء ليس أمراً سيئاً بحد ذاته، بل هو يلبي حاجة أكيدة في الوضع العراقي المتردي على صعيد البنى التحتية، وهو قد يذكر البعض بشركة حكومية عملاقة سابقة هي الشركة العامة للمقاولات الإنشائية. تولت هذه الأخيرة في عراق السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات من القرن الماضي إنجاز نسبة كبيرة من مشاريع البنية التحتية، كما أنجزت إعادة إعمار العراق مرتين بعد حرب الخليج الثانية وبكفاءة عالية ومشهود لها وبإمكانات محلية محدودة وفي ظروف حصار قاسٍ. وقد تم تفكيك هذه الشركة لاحقاً الى عدة شركات إنشائية اشتهرت منها شركة الرشيد للمقاولات، ولكنها ضمُرت وكادت تختفي في عهد ما بعد الاحتلال الذي دمر جميع مؤسسات القطاع العام من خلال تطبيق طبعة شوهاء من “النيوليبرالية” التي يصفق لها اليوم الساسة الإسلاميون الشيعة والسنة والقوميون الكرد، وهم يحلمون بدخول “فردوس” الرأسمالية المنشود من بوابة اقتصاد هجين وعبثي لا يُفهم رأسه من أساسه!
قلنا إنَّ قرار إنشاء شركة هندسية أو بنائية ليس سيئاً بحد ذاته، لكنْ أنْ تقام شركة هندسية تتبع جهازا عسكريا رسميا يرتبط مباشرة بالقائد العام للقوات المسلحة ولا علاقة له بالوزارة المتخصصة بالبناء والهندسة، فهذا أمر جديد يثير العديد من علامات الاستفهام حول ماهيته وجدواه وأهدافه الحقيقية. وإذا كانت الدولة بحاجة ماسة فعلاً لشركات هندسية وغير هندسية لترميم اقتصادها والبنية التحتية المتهالكة، وهي كذلك حقاً، فلماذا لا تعيد الحكومة ترميم فروع الشركة الأم للمقاولات الإنشائية لتتولى إصلاح ما يمكن إصلاحه من الحطام العراقي العريض الذي تعيث فيه فسادا شركات فاشلة محلية وأجنبية وأخرى وهمية ولصوصية نهبت الكثير من المال العام كما تؤكد تقارير هيئة النزاهة وأجهزة القضاء ذات الصلة؟
الأوقاف الدينية قبل الاحتلال
بنظرة سريعة إلى الماضي، نعلم أن الأوقاف الدينية التابعة لجميع الأديان والمذاهب العراقية كانت، ومنذ قيام الدولة العراقية المستقلة شكليا عن بريطانيا سنة 1922، تابعة مباشرة لوزارة حكومية واحدة تسمى وزارة الأوقاف، ثم أضيفت لها لاحقة “والشؤون الدينية” في العهد الجمهوري، وكان آخر وزير من عشرين وزيرا منهم هو عبد المنعم أحمد صالح التكريتي.
أما بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003، وتشكيل حكومة محلية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، فقد تم تفكيك هذه الوزارة على أساس طائفي، واستحدثت ثلاثة دواوين رسمية ترتبط مباشرة بمجلس الوزراء؛ الأول هو ديوان الوقف الشيعي وثانٍ باسم ديوان الوقف السني وثالث باسم ديوان أوقاف الديانات المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية. وكانت تلك إشارة الانطلاق لتفكيك الدولة والمجتمع العراقيين بمباركة وتشجيع من المرجعيات الدينية ودول إقليمية مجاورة للعراق ومشاركة فعالة من جميع الأحزاب السياسية في ما سُميت “العملية السياسية الأميركية”، كمقدمة تمهيدية لما آل إليه الوضع العراقي لاحقا.
إنَّ نظرة سريعة إلى هيكلية واحدٍ من هذه الدواوين تعطينا فكرة أولية عن طبيعتها، ففيها مجموعة من الدوائر، يقود كل واحدة منها موظف بدرجة مدير عام تدفع الحكومة راتبه هو موظفيه، وهم بالآلاف، وتلك الدوائر هي:
الدائرة القانونية، والدائرة المالية والإدارية، والدائرة الهندسية، ودائرة العلاقات العامة والإعلام، ودائرة التخطيط والمتابعة، ودائرة التعليم الديني، ودائرة الأمانة العامة لإدارة واستثمار الوقف وتضم ثلاثة أقسام هي؛ قسم الأملاك الموقوفة وقسم الأراضي الزراعة، وقسم الاستثمار. وأخيراً، دائرة المؤسسات الخيرية. ويشرف على هذه الدوائر المجلس الأعلى لديوان الوقف المعني، يقود عمل المجلس رئاسة الديوان المؤلفة من رئيس الديوان وهو بدرجة وزير، يعين باقتراح من مجلس الوزراء بعد موافقة المرجع الديني الأعلى في حالة ديوان الوقف الشيعي، إلى جانب عدد من الخبراء والمستشارين.
إن المدقق في هذه الهيكلية للديوان الوقفي لا يمكنه أن يفرق بينها وبين هيكلية أية شركة أو كارتل شركات اقتصادية ربحية، وإلا فما علاقة الهندسة والتخطيط والعلاقات العامة والإعلام والاستثمارات بديوان أوقاف هو أصلا جهة دينية روحانية غير ربحية؟
عينات من ملفات كثيرة
لم تعد قضايا الفساد تفاجئ أو حتى تثير اهتماماً خاصا لدى غالبية المواطنين العراقيين لأنها بلغت من الشيوع درجة بات معها الناس لا يتفاجأون من وجود الفاسدين وأخبار الفساد بل من ندرة غير الفاسدين وحالات رفض الفساد أو كشف بعض الفاسدين – كأكباش فداء – من نهابي ثروات الشعب. وهذا ما يمكن أن يوصف بأنه تطبيع اجتماعي ممنهج للفساد والفاسدين وجعله ظاهرة عادية في مجتمع بلا دولة أو بدولة مسلوبة الإرادة وتابعة للأجنبي.
إنَّ ملفات الفساد التي كُشف النقاب عنها في الإعلام، وعالج القضاءُ نماذجَ منها لا تستثني وقفاً من الأوقاف الدينية العراقية بل طاولتها جميعا. ففي ما يتعلق بالوقف المسيحي على سبيل المثال والبداية، نقرأ هذا الخبر الذي يكرس واقع أن هذا الوقف ضحية فساد لطرف آخر من طبيعة مليشياوية، فقد هاجم بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق الكاردينال لويس ساكو، خلال شهر أيار الجاري رئيسَ حركة بابليون المسيحية – والتي هي جزء من الحشد الشعبي – ريان الكلداني، ووزيرة الهجرة التابعة لهذه الحركة إيفان فائق. وقال ساكو في مؤتمر صحافي، إن “ريان الكلداني قام بسرقة أملاك المسيحيين في بغداد ونينوى وسهل نينوى ويحاول شراء رجال الدين المسيح بمساعدة امرأة وضعها بمنصب وزير (يقصد وزيرة الهجرة إيفان فائق، وإنه استحوذ على (كوتا) المسيحيين في الانتخابات الأخيرة/ وكالة شفق نيوز في 6 أيار 2023”.
بانتقال إلى الوقف السني نسجل صرخة الشيح أحمد حسن الطه رئيس المجمع الفقهي العراقي فقد انتقد بحدة الفساد والفاسدين في الوقف السني علناً في إحدى خطب الجمعة، وما يزال تسجيلها بالصوت والصورة منشورا على موقع يوتيوب قائلاً “انتشر الفساد في كل مؤسسات الدولة، ومنها الوقف، في كل مكان فساد، في كل جامع فساد، في كل مقاولة فساد”. وفي 15 نيسان /أبريل سنة 2017 أصدرت محكمة الجنح المختصة بالفساد وغسيل الأموال حكما على رئيس الوقف السني الشيخ عبد اللطيف هميم حكماً بالسجن لمدة عام واحد بعد إدانته باختلاس مبالغ ضخمة (حُكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ لكبر سنِّهِ ومع تعهده بحسن السوك خلال فترة الحكم مع دفع تأمينات بمبلغ 200 دينار / تعادل سنتات قليلة من الدولار، ويعاد له المبلغ بعد انتهاء مدة الحكم). أما الوقف الشيعي فسوف نفرد له فسحة موسعة بعد قليل.
ولأخذ فكرة عن المبالغ الهائلة والمتصاعدة التي تخصصها الحكومات العراقية لهذه الأوقاف الدينية – التي يفترض أنها مصادر للأموال والممتلكات الوقفية كما هو معروف، وبالتالي لا ينبغي أن تأخذ من الأموال العامة العائدة دستورياً إلى الشعب – نعلم أن النائب كاظم الصيادي طالب بإلغاء ميزانية الوقفين الشيعي والسني في ميزانية الدولة لسنة 2020. وقال الصيادي في تصريح له بتاريخ 22 آذار 2020، إن “ميزانية الوقف الشيعي بلغت (585 مليار دينار) وميزانية الوقف السني بلغت (284 مليار دينار) وليس هناك مستشفى واحد مخصص للأوبئة في البلاد، لذلك نطالب بحذف هذه المبالغ في الميزانية القادمة”.
ولكن موازنة سنة 2021، زادت هذه المبالغ، حيث أعلن مقرر اللجنة المالية في مجلس النواب أحمد الصفار، أنَّ “مخصصات ديوان الوقف الشيعي في الموازنة بلغت 829 مليار دينار، بينما بلغت مخصصات الوقف السني 309 مليارات دينار، أما ديوان أوقاف الديانات المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية تسعة مليارات دينار”.
ولمعرفة مدى العبث وانعدام العقلانية في وضع الموازنة العراقية العامة، يقارن عضو اللجنة المالية في المجلس جمال كوجر بين موازنة وزارة الزراعة التي بلغت 310 مليارات دينار (212 مليون دولار)، مقابل موازنة الوقف السني 309 مليارات والوقف الشيعي 830 مليار دينار (قرابة 568 مليون دولار)، ومجموع هذه المبالغ يعادل سبعة أضعاف موازنة وزارة الزراعة، التي يعتمد عليها أكثر من أربعين مليون عراقي في إنتاج وتوفير طعامهم كما يُفْتَرَض!
ولم تكتفِ الحكومة بتخصيص هذه المبالغ الضخمة للأوقاف الدينية بل زادت عليها “هدايا” أخرى منها أنها عيَّنت على ملاك الوقف السني أربعة عشر ألف موظف عام 2023، بينما عينت لوزارة الإعمار والإسكان والبلديات ثلاثة آلاف موظف لا غير، ولا يعلم أحد ماذا سيفعل هذا العدد الهائل في الوقف السني والذي يمكن أنْ يديره وبجميع مؤسساته أقل من ألف موظف! أما في الوقف الشيعي فنعلم أن عدد موظفي عتبة واحدة من العتبات الدينية هي “العتبة الحسينية” مسؤولة عن رواتب وإعانات لقرابة أربعة عشر ألف منتسب” كما سيرد ذكره في مناقشتنا لبيان صدر عن إدارة هذه العتبة.
ما هو الوقف الشيعي؟
لنبدأ بتعريف “الوقف” عموما لنجد أنه مصطلح إسلامي “يعني لغةً، الحبس أو المنع، واصطلاحاً، هو حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح. ويشمل الوقف الأصول الثابتة كالعقارات والمزارع وغيرها، ويشمل الأصول المنقولة التي تبقى عينها بعد الاستفادة منها كالآلات الصناعية والأسلحة أما التي تذهب عينها بالاستفادة منها فتعتبر صدقة كالنقود والطعام وغيرها”. والخلاصة هي أن الأوقاف تعني أموال وثروات فكيف تمنح الدولة أموالا من ثروات الشعب لمن يدير هذه الأموال والثروات دون ان تعرف عنها وعن أقيامها وحساباتها شيئا؟
هذا عن الوقف عموماً، لغةً واصطلاحاً، فكيف يُعرِّف ديوان الوقف الشيعي نفسه؟ إنه “ديوان يُعنى بأوقاف المسلمين الشيعة بجميع فرقهم وشؤونهم الإسلامية يسمى ديوان الوقف الشيعي ويرتبط بمجلس الوزراء العراقي ويتمتع بالشخصية المعنوية ويمثله رئيسه أو من يخوله. وتشرف هذه المؤسسة على دور العبادة الشيعية والحسينيات والمزارات الشيعية في عموم العراق ويتم تعيين رئيسها من قبل رئيس الوزراء، وهو بمنصب وزير وأول من ترأسه كان السيد حسين بركة الشامي/ صفحة الديوان على الشبكة”. ونسجل هنا، أن السيد حسين بركة الشامي أُتهِم علناً بالفساد، وقد أصدرت محكمة الجنايات الخاصة بقضايا النزاهة في الرصافة قرارها المرقم (293/ج ن/2018) في 3/7/2018 والمتضمن “حبس المدان حسين بركة الشامي لمدة سنة مع وقف التنفيذ لكبر سِنِّهِ مع إعطاء الحق لديوان الوقف الشيعي للمطالبة بالتعويض المادي”. وقد هاجر الشامي بعدها من العراق وهو يعيش حتى اليوم في بريطانيا!
يُفهم من تعريف الديوان الشيعي أعلاه، والذي ينطبق من حيث المضمون على الدواوين الوقفية للطوائف الأخرى أن الديوان دائرة رسمية بسبب ارتباطه بمجلس الوزراء أي أنه جهة حكومية، ولكنه، في الوقت نفسه، جهة مستقلة من حيث الإدارة والمال مع بقاء مسألة المُلكية غامضة؛ فلا هي ملكية عامة تابعة للدولة، ولا هي ملكية فردية تعود لشخص معين بل هي وقف ديني، وفي هذه الأجواء من الغموض والعتمة والالتباس ينتعش الفساد وينتشر الفاسدون.
مشاريع استثمارية غنائمية
من الأمثلة المشهورة في العراق على الفساد في الوقف الشيعي، والتي نورد بعض نماذجها هنا لغرض توثيق الظاهرة بالوقائع ومن ثم تحليلها، نذكر الآتي:
-قررت الحكومة العراقية قبل بضع سنوات بناء محطات استقبال واستراحة لملايين الزوار الشيعة القادمين من كافة أرجاء العراق إلى زيارة العتبات المقدسة، ولتكون تلك المحطات في ضواحي مدن العتبات وخصصت قطع أراض لبناء تلك المحطات وأحيلت عقود إنشاء تلك المحطات الى إدارتي العتبتين الحسينية والعباسية في محافظة كربلاء. ثم وبقدرة قادر، استولت الإدارتان على تلك الأراضي، وتصرفتا فيها تصرف المالك الحقيقي، فأنشأتا على قسم منها منتجعاً سياحياً راقياً بأسعار إقامة باهظة، وأقامتا جامعات أهلية خاصة على قسم آخر، هما جامعة “الكفيل” التابعة لإدارة العتبة العباسية وجامعة “وارث الأنبياء” للعتبة الحسينية.
ردا على هذا الاتهام بالاستيلاء غير المشروع قالت العتبة الحسينية في بيان لها سنتوقف عنده مفصلا لاحقا، إن هذا الاتهام “يجافي الحقيقة إذ أن الوزارة ذاتها طلبت، بضغط من أهالي كربلاء المقدسة ومن العتبات المقدسة، إدارة تلك المدن لغرض إدامتها وديمومتها، إذ قدمت خدماتها للزائرين والنازحين مجاناً طيلة خمس سنوات، وتم تحويل ملكيتها إلى العتبات المقدسة بعد شرائها من الوزارة”، وهذا كلام لا يحتاج إلى مزيد إيضاح فهو يعلق المسؤولية في ما حدث من “استيلاء” برقبة أهالي كربلاء، فهم الذين ضغطوا على الوزارة فتم تحويل ملكية الأراضي والعقارات إلى العتبة بطريقة الشراء!
مثال آخر، يتعلق هذه المرة بطابعة تجارية، ففي سنة 2013 افتتحت العتبة العباسية التابعة لديوان الوقف الشيعي شركة لطباعة الكتب في مدينة كربلاء، وفي سنة 2015 افتتحت العتبة الحسينية مطبعة ثانية، وقال الأمين العام والمتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة، سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي “إن افتتاح هذه المطبعة يهدف إلى خدمة الثقافة والفكر والإعلام ونشرها بين أوساط المجتمع”، أما عملياً فقد وقعت المطبعتان على عقود بملايين الدولارات مع وزارة التربية والتعليم لطباعة الكتب المدرسية في العراق!
قصة مطار “كراج متعدد الطوابق”
وعلى الرغم من أن دور المرجعية النجفية في هذه المشاريع الاستثمارية موضع أخذ ورد؛ فهناك من يعتقد أن المرجعية، والمرجع الأعلى نفسه، براء من أي فساد، ولا علاقة لها بهذه المشاريع، وإنها معروفة بزهدها وببساطة حياة المرجع الأعلى السيستاني ذاته، وإنها حتى وإنْ كان لها دور في تسهيل ومباركة مثل هذه المشاريع على ألسنة وكلائه وممثليه، ومنها مشروع مطار كربلاء، فربما تكون قد تعرضت للتضليل من قبل الجهات المنفذة والشركات المستثمِرة فيه ومنها شركة “طيبة كربلاء” التابعة لإدارة العتبة الحسينية. وحتى إذا افترضنا صحة هذا الاعتقاد العاطفي، فإن سكوت المرجعية النجفية عن كل ما قيل ونشر في الإعلام حول مظاهر الفساد في هذه الأنشطة الاقتصادية وبعضها بتَّ فيها القضاء علنا، وعن الاستئثار والاحتكار والحلول محل الدولة واستيلاء على أراضيها وبعض مصانعها وأملاكها يبقى مثيرا للتساؤل والعجب.
من هذه المشاريع المثيرة للجدل مشروع مطار كربلاء الدولي، الذي بدأت الحكومة عبر وزارة النقل بالتخطيط له منذ سنة 2013، رغم عدم الحاجة إليه بوجود مطار دولي في ضواحي مدينة النجف المجاورة، ثم أصبح مشروعاً للقطاع الخاص “الديني” خلافا لكل ما ينص عليه الدستور والقوانين الخاصة بموضوع الاستثمار وبطريقة يشوبها الكثير من الغموض. إن المعلومات والمعطيات بهذا الخصوص متضاربة ومتناقضة ولا يمكن الجزم بصحتها لعدم وجود موقف حكومي رسمي من المشروع وتداعياته باستثناء التصريحات المناسباتية الرسمية القليلة والمتناقضة لرئيس هيئة الاستثمار السابق سامي الأعرجي، وتصريحات محافظ كربلاء المقال عقيل الطريحي الذي فتح هذا الملف ولكنْ بعد إقالته من منصبه، وهذا أمرٌ يطرح علامات استفهام قوية على سكوته حين كان في موضع القرار والمسؤولية، وليس على صحة ما طرحه علنا ولم يرد عليه المعنيون الذين اتهمهم بالفساد وذكر أسماء بعضهم.
إن مطار كربلاء واحد من عدة مطارات دولية تقع في محافظات قريبة من بعضها جغرافيا إلى درجة تجعل من إقامتها أمراً عبثياً ومريباً من حيث الدوافع والجدوى الاقتصادية والبيئية، ومخالفاً حتى لقوانين وقواعد الطيران المدني؛ فالمسافة بين مطاري النجف وكربلاء تتراوح بين 50 و60 كليو مترا، يمكن أن يقطعها المسافر بالسيارة في نصف ساعة تقريبا.
نعلم من تقرير صحافي نشر يوم الأربعاء 28 تشرين الثاني 2018، أن رئيس هيئة الاستثمار العراقية سامي الأعرجي، صرح أن “مشروع مطار كربلاء الدولي عمله متقدم ويسير وفق الخطة الزمنية التي أعدت للإنجاز”، في حين أن العمل الحقيقي في المطار متوقف منذ نحو ستة شهور (الكلام هنا في نهاية عام 2018)، بسبب نزاع قضائي بين الممول وائتلاف الشركات المنفذة. ويؤكد شهود عيان صحة ما ورد في هذا التقرير الصحافي ويقولون إنَّ مشروع المطار لم يتقدم عملياً كثيراً خلال ذلك العام، وهو يراوح في مكانه وأن الجهات المسيطرة عليه تواجه مشاكل ودعاوى قضائية عديدة.
غير أن مصادر قريبة من إدارة المشروع قالت قبل سنتين تقريباً إنَّ نسب الإنجاز في برج المطار بلغت 80% وهي النسبة نفسها التي رأيناها في آخر الصور الملتقطة قبل عام للبرج، أما في البنايات الساندة فبلغت نسبة الإنجاز 70% وفي المدرجات فقد بلغت 40%، وهذه الأخبار قالتها مصادر خاصة وفردية غير رسمية، حيث غابت أخبار مشروع المطار عن التداول الإعلامي منذ عام كامل. وها نحن في منتصف عام 2023 تقريباً ولم يفتتح هذا المطار، الذي وصفه وزير نقل أسبق بأنه ليس أكثر “من كراج متعدد الطوابق” حتى الآن، ويبدو أن الانتظار لن يطول كثيرا بعد زيارة المتولي الشرعي للعتبة الحسينية إلى موقع المشروع يوم العاشر من نيسان الماضي لتعيده إلى المشهد الإعلامي من جديد.
القضاء يدخل على الخط
إذا كانت الأحزاب السياسية وأذرعها المسلحة قد سيطرت على مطار النجف، الذي يشوب الغموض الجهة المسؤولة عنه حتى الآن، فتارة يقال إنها سلطة الطيران المدني بعد فصلها عن وزارة النقل، وأخرى يقال إنها مجلس المحافظة، وحتى اقتحامه من قبل المتظاهرين في صيف 2018، فإن مطار كربلاء قد حُسمت قضية عائديته كما يبدو لمصلحة الشركات التابعة للعتبة الحسينية.
ففي سنة 2010 قال المشرف على مطار النجف صادق اللبان: “إن مطار النجف هو “ملك لـ 25 مليون عراقي – من الواضح إنه يقصد العراقيين الشيعة فقط، أي أن التطييف السياسي بلغ المطارات – ومن غير الممكن أن يتأثر بقرار أي جهة مهما كانت”. مشيراً إلى أن “وزارة النقل طالبت رسمياً بإدارته، إلا أنَّ المحافظة ردَّت بأن المطار مشروع استثماري ومن غير الصحيح تسليم ادارته الى وزارة النقل رغم احترامنا الشديد لها”.
وبخصوص مطار النجف أيضا، فقد كان رئيس مجلس الوزراء الأسبق حيدر العبادي قرر حل مجلس إدارة المطار الذي يهيمن عليه ممثلو الأحزاب السياسية، وإلحاق المطار بسلطة الطيران المدني في تشرين الثاني سنة 2017، ويبدو أن هذا القرار ظل حبرا على ورق، ولا تعرف على وجه الدقة حتى الآن عائدية المطار وأين تذهب إيراداته المالية. ففي تصريح متلفز بتاريخ 23 شباط من العام الجاري، قال رئيس سلطة الطيران المدني، عماد الأسدي، إنه لا يعرف إلى مَن يعود مطار النجف، مضيفاً أنه لا يعرف أيضاً أين تذهب إيراداته/السومرية نيوز.
وكانت أنباء صحافية قد ترددت آنذاك عن أن ديوناً ضخمة قد ترتبت على هذا المطار تقدر بمائتين وسبعة وسبعين مليون دولار أي أنها تفوق تكاليف إنشائه، ولكن تمَّ السكوت لاحقا عن هذه القضية ودفنها قضائياً وإعلامياً خلال فترة حكومة مصطفى الكاظمي!
ومن الإشارات القوية والرسمية الجديدة لتدخل الدولة وتأكيد عائدية المطار لها، صدور حكم في قضية فساد كان بطلها رئيس مجلس إدارته، حيث نسجل مصادقة هيئة النزاهة خلال العام الجاري “شباط 2023″على قراري الإدانة الصادرين بحقِّ رئيس مجلس إدارة مطار النجف الدوليّ سابقاً، بعد الطعن التمييزيِّ من قبل الهيئة.
حيث قررت محكمة استئناف النجف المُصادقة على الحكمين الصادرين بالحبس الشديد غيابياً على رئيس مجلس إدارة مطار النجف الدوليّ سابقاً، “الحكم الأول بالحبس الشديد لمُدَّة ثلاث سنواتٍ جاء على خلفيَّة قيام المُدان بإلحاق الضرر الجسيم بالمال العامّ؛ نتيجة إساءة استعمال السلطة وصرف مبلغ (726,856) دولاراً أمريكياً خلافاً للضوابط، فيما صدر حكم الإدانة الثاني بالحبس البسيط لمُدَّة ستة أشهر، إثر قيامه بمنع الفريق التدقيقيّ التابع إلى هيئة النزاهة من القيام بواجبه وتفتيش مطار النجف، والامتناع عن تزويد الهيئة بالوثائق والأوليَّات، تحت ذريعة أنَّ المطار عبارةٌ عن مشروعٍ استثماريٍّ لا يدخل ضمن صلاحيَّات الهيئة في التدقيق والرقابة/ شفق نيوز”. ويلاحظ أن خبر هذا الحكم لم يتضمن اسم المسؤول المدان، ولكن المعروف هو أن رئيس مجلس النجف المحلي هو أحد رجال الدين ويدعى الشيخ فايد الشمري.
مطارات دولية وشوارع مدن مزرية!
هناك أيضاً مشروع لمطار دولي في محافظة ذي قار، شُرع بتنفيذه بهدف تحويل قاعدة عسكرية جوية عراقية شبه مهجورة في محافظة ذي قار تدعى “قاعدة الإمام علي”، ومطار آخر قيد التخطيط في محافظة واسط جنوب بغداد، ومشروع مطار ثالث طالب بإنشائه أعضاء في مجلس المحافظة في محافظة ميسان شرق ذي قار، وجميع هذه المحافظات متجاورة وقريبة من بعضها في إقليم جغرافي محدود المساحة. ويمكن لمطار البصرة الدولي أن يغني عن هذه المطارات جميعا، مثلما يغني مطار بغداد عن مطاري كربلاء والنجف، فالمسافة بين بغداد وكربلاء مائة كيلومتر لا غير، وبينها وبين النجف 176 كيلومترا فقط. ومن الممكن والعقلاني أن تتم الاستعاضة عن هذه المطارات عديمة الجدوى الاقتصادية، بتطوير وتوسعة مطارات بغداد والبصرة والموصل، وبتطوير وتحديث شبكة الطرق البرية المزرية داخل المدن وشبكة السكك الحديدية العراقية العريقة والمتهالكة.
ولكن لماذا “تنجح” مشاريع الاستثمارات الزراعية والصناعية التي تقوم بها العتبات والأوقاف الدينية، كما يروج الأعلام المحابي لها، وتفشل مثيلاتها التي تديرها الدولة؟ هنا، محاولة للإجاب.: تنجح هذه المشاريع لعدة أسباب وعوامل منها:
-لأن مشاريع الأوقاف والعتبات تقوم على أراضٍ وبمواد خام مجانية أو شبه مجانية تعود للدولة، منها كليات ومصانع قائمة فعلاً ومجهزة تجهيزاً تاماً تم الاستيلاء عليها من قبل قوى وشخصيات نافذة في الحكم، وأسماؤها معروفة ومتداولة في الإعلام.
-ولأن الدولة تقدم أموالاً هائلة من الموازنة السنوية الحكومية لدواوين الأوقاف الشيعية والسنية وغيرها، رغم أنها هيئات وقفية مستقلة دستورياً ويفترض أن تكون مكتفية ذاتيا.
-ولأن الأرباح الكبيرة المتأتية من مشاريع مقاولات واستثمارات العتبات الدينية لا تضبطها حسابات سنوية رسمية وعلنية مراقَبة للمصاريف والأرباح والتكاليف، ولا تدفع عنها أية ضرائب أو رسوم كمركية أو غيرها، وقد خُصص لبعضها رصيف خاص في أكبر موانئ البلد لاستقبال مستورداتها من الخارج لتكون معفاة من الرسوم والتفتيش.
-ولأن الأوقاف الدينية والعتبات مستقلة حسب دستور النافذ -دستور مرحلة بريمر – بموجب المادة 103 أولا، والتي تنص على أن “دواوين الأوقاف، هيئاتٌ مستقلة مالياً وإدارياً”. ولا تشرف على حساباتها مؤسسات الدولة المتخصصة كوزارات المالية والاقتصاد والتخطيط ولا تُدفَع عنها ضرائب سنوية للدولة. فكيف تخسر مشاريع استثمارية، تأخذ ولا تعطي.
-ولأن مشاريع الأوقاف والعتبات الدينية تشارك في إنجاحها جميع وزارات ومؤسسات الحكومة العراقية وتقدم لها الخدمات والمواد الأولية والآليات والنقل مجانا، ومَن يجرؤ على رفض طلبات إدارات العتبات المستثمرة يعاقب بالنبذ داخل الحاضنة المجتمعية الطائفية ويخسر امتيازاته وحتى منصبه الحكومي غالبا.
ربما تصلح حالة محافظ كربلاء الأسبق، عقيل الطريحي، لتكون خير مثال على هذه الحالات من النبذ والإعفاء من المناصب؛ لقد فقدَ الطريحي منصبه لاحقاً، وتمت إقالته بعد استجوابه غيابياً من قبل مجلس المحافظة في سنة 2019. وكان الطريحي قد كشف المخبوء حين قال في لقاء تلفزيوني مشهور ومنشور على منصة اليوتيوب، إنه كان “موافقاً على إحالة مشروع استثمار مطار كربلاء إلى إحدى شركات العتبة الحسينية، ولكن الجهات العتباتية المستثمرة استبعدت وزارة النقل العراقية من المشروع، وقال حرفيا: “حين أحيل مشروع مطار كربلاء إلى شركة من الشركات التابعة للعتبة الحسينية هي شركة “خيرات السّبطين”، أنا لم أعترض على هذه الشركة، ولكن هم عملوا على استبعاد وزارة النقل الاتحادية، فهل يمكن بناء مطار دولي من دون وجود وزارة نقل؟” وأضاف الطريحي “وحين سألوني: وماذا تقدم أنت كمحافظ للمطار؟ قلت لهم: لا أستطيع أن أقدم شيئاً باسم المحافظة. فقال محاوري: ليش، أليس هذا المشروع للإمام الحسين؟ فقلت له: هذه لا تبيعها علينا لأننا نعرفها، والحسين عليه السلام ليس له علاقة بالمطار!”.
ثم يسجل الطريحي الآتي: “لقد وافقت على هذا المشروع لأنني بصراحة خُدعت من قبل صاحب شركة “خيرات السبطين” ومن سامي الأعرجي، رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار في العراق” ويبقى السؤال في حالات كهذه قائما؛ فلماذا لا يتكلم المسؤولون الحكوميون والقضائيون ويكشفون المستور إلا بعد ان تتم الإطاحة بهم ويستبعدون عن مناصبهم؟ ألا يعتبر هذا دليل إدانة ضدهم، قد يصل إلى درجة اتهامهم بالتواطؤ طالما كانوا صامتين وهم في موقع المسؤولية؟
إن ما يقال عن فشل مشاريع القطاع العام التي تديرها الدولة يثير العديد من الاعتراضات والتحفظات، لأنه قول لا تنطبق على واقع العراق بعد الاحتلال الأميركي وقيام حكم المحاصصة المكوناتية، فغالبية مشاريع ومصانع ومزارع القطاع العام تم تدميرها خلال الحرب، أو محاصرتها أو التضييق عليها و قطع التمويل عنها وتحويل بعضها الى مشاريع “تمويل ذاتي” لا سوق لها، بعد الحرب ضمن خطة منهجية مسبقة لتدمير العراق وتحويله الى سوق استهلاكية لبضائع دول الجوار؛ بلد مهشم بلا جيش ولا زراعة ولا صناعة ولا ثقافة ولا صحة ضمن معادلة الاحتلال الأميركية القائلة: لكم أيها الطائفيون حكم العراق ولنا أن تجعلوه قاعاً صفصفا!
حين يتدخل القضاء
أما عن محاولات القضاء الدخول في متاهة “الفساد المقدس” المرعبة فيمكن تسجيل محاولة رئيس هيئة النزاهة الأسبق القاضي عزة توفيق جعفر من مدينة الموصل، والذي تسلم مهمات رئاسة هيئة النزاهة في شهر تموز من عام 2018. فقد أعلن القاضي جعفر في بداية سنة 2021 عزمه على تقديم تقرير يكشف جميع ملفات الفساد بما فيها بعض مشاريع العتبة الحسينية كمشروع إنشاء مطار كربلاء بقيمة ملياري دولار. وفعلا زار القاضي جعفر العتبة الحسينية التي أصدر أمينها العام الشيخ عبد المهدي الكربلائي بياناً أكد فيه دعمه لمكافحة الفساد. ولكنَّ القاضي المذكور لم يتمكن أبداً من تقديم تقريره الموعود لأنه قتل داخل سيارته في حادث مروري، وكان القاضي الراحل قد قال في خطاب مسجل له قبل مقتله عبارة لها مغزاها ونصها “إن منظومة الفساد أضحت اليوم لديها استراتيجيات وخطط، وربما تصل إلى مستويات تكون أقوى من الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد”!
من الملفت حقاً أن إعلام دواوين الأوقاف وإدارات العتبات الدينية لم تُعِر كبير اهتمام لكل ما تنشره الصحافة ووسائل الإعلام والمواطنون العراقيون على منصات التواصل الاجتماعي وهو كثير، إلا مرة واحدة! وذلك حين اتهمها بالفساد طرف إعلامي أميركي فسارعت إلى الرد المطول والغاضب، ولهذا دلالاته ومعانيه العديدة؛ منها أن هذه الأطراف المتهمة بالفساد تعرف جيدا أن الطرف الأميركي هو الوحيد القادر على إقصائهم عن مناصبهم وامتيازاتهم بجرة قلم السفيرة ببغداد بعد أن ضمنوا سكوت الدولة على فسادهم!
فللمرة الأولى والوحيدة حتى الآن، ردت العتبة الحسينية في كربلاء على تحقيق تلفزيوني بثته قناة “الحرة -عراق” الأميركية، تضمن الإشارة إلى شبهات فساد تحوم حول منظومة العتبتين الدينيتين في كربلاء، بإدارة وكيلي المرجع الأعلى علي السيستاني، الشيخين عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي. كما تحدث وثائقي قناة الحرة عن دور مرتضى الحسني صهر الشيخ الكربلائي في إدارة تلك المشاريع، وعن دور ميثم الزيدي زعيم “فرقة العباس” القتالية، التابعة لحشد العتبات، وهو صهر أمين عام العتبة العباسية الشيخ أحمد الصافي. ويبدو أن الجهة الإعلامية الأميركية نسيت أو تناست أفضال الشيخين وخاصة الصافي على العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال ونظام حكم المحاصصة الطائفية الذي تمخضت عنه وخطورة الدور الذي قام به – الصافي – حين كان العضو الأول والمتنفذ في لجنة كتابة الدستور العراقي سنة 2005 ممثلاً للمرجعية النجفية. وقد أكد دورَهُ هذا أحدُ أعضاء اللجنة وهو السيد ضياء الشكرجي، مقرر اللجنة الأولى في مقابلة مع التلفزيون الرسمي العراقي قبل سنوات قليلة، والتسجيل منشور على منصة يوتيوب، حيث قال “إن رئيس لجنة المبادئ الدستورية الأساسية وممثل المرجعية النجفية الشيخ أحمد الصافي كان يضغط عليه ويمنعه من توزيع محاضر الجلسات على الأعضاء وأنَّ الشيخين الصافي وهمام حمودي سربا صيغة للدستور غير متفق عليها لجريدة “الصباح” الرسمية وقالا إن هذه الصيغة قد تم الاتفاق عليها قبل أنْ يتم أي اتفاق، ما حدا به إلى الاستقالة من اللجنة”.
الرد اليتيم والاستثمارات “المجازية”
من الواضح أن تحقيق قناة “الحرة” قد أغضب الشيخين ومعهما إدارة العتبتين والجهات والشخصيات السياسية المقربة منهما فصدر ذلك البيان الغاضب، فلنلق نظرة سريعة على بعض فقراته الأهم:
يبدأ البيان بفقرة مليئة بالدلالات تقول “تابعت إدارة العتبة الحسينية المقدسة باستهجان بالغ ما صدر عن قناة الحرة من تقرير يغالط الحقيقة ويجانب الصواب ولعل الهدف من ورائه لم يكن مهنيا البتة، فقد آثار التقرير علامات استفهام كبيرة وكثيرة ولاسيما استهداف العتبات بوصفها رمزا من رموز الاستقرار والنجاح، فضلاً على كونها مساحة تصحيح وتصويب طوال تعاقب الحكومات بعد 2003 وما تركته من ثغرات تستوجب ملأها بما ينفع البلاد والعباد. إذ سعت إلى تأسيس منظومة مشاريع تلامس حاجة المجتمع وتطلعات الشعب العراقي في مختلف قطاعات الحياة، فلم تكن العتبات مراكز دينية وحسب وإنما كانت مراكز تغيير للواقع الذي خلفته الأزمات طوال المدة المنصرمة”. والبيان هنا لا يراوغ أو ينفي ما يتهم به من أفعال وما يوصف به ويقال عن تدخلاته في الشأن العام وخاصة الاقتصادي بل هو يعطي لأصحابه حق القيام بدور الدولة، أو بدور الهيئة الناجحة في دولة فاشلة تترك وراءها الثغرات، فبادرت هي كما يقول البيان حرفياً إلى “تأسيس منظومة مشاريع تلامس حاجة المجتمع وتطلعات الشعب العراقي في مختلف قطاعات الحياة لتغيير للواقع الذي خلفته الأزمات طوال المدة المنصرمة”!
أما عن مشاريعها الاستثمارية فبيان العتبة يعترف بوجودها، ولكنه يضيف أنها مشاريع استثمارية “على نحو مجازي”، لأنها لا تبتغي تحقيق الجنبة الربحية بقدر تحقيق أهداف خدمية واجتماعية وصحية. ولكن كيف يتأكد الجمهور من عدم تحقيق جنبة مالية وحسابات هذه المشاريع سرية لا يكشف عنها للرأي العام، وهل هناك مشاريع صناعية وزراعية وخدماتية بهذا الحجم لا تدر أرباحاً إن لم تكن مجانية فهل خدمات ومنتوجات العتبات مجانية أو حتى بسعر الكلفة؟!
وفي الفقرة الثالثة المقتضبة منه يقول البيان “العتبة الحسينية المقدسة مسؤولة عن رواتب وإعانات لقرابة (14) ألف منتسب” ويبدو أن البيان بهذه الفقرة ينفي أن يكون عدد منتسبيه أكثر من هذا الرقم أو أنه يحاول بها تبرير المخصصات الكبيرة التي تخصص له في الموازنة السنوية العامة للدولة.
أما عن النقطة الأهم والمتعلقة بالرقابة المالية والمحاسبة الحكومية فقد ردت العتبة في بيانها بالقول “إنَّ جميع مشاريع العتبة الحسينية المقدسة الاستثمارية منها والخدمية يخضع الإنفاق فيها إلى تعليمات وقرارات الموازنة العامة للحكومة الاتحادية، إذ يدقق قسم الرقابة المالية في العتبة جميع النفقات والإيرادات، ليدققها من بعد ذلك مدقق خارجي مجاز من وزارة المالية، وترفع بعد ذلك إلى ديوان الوقف الشيعي الذي يضعها بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي لغرض المراجعة والتدقيق”. وهذه الفقرة صريحة جدا فهي تجعل الرقابة المالية والتدقيق بيد إدارة العتبة نفسها ثم يكلف مدقق خارجي بتدقيق الحسابات.
إن كون المدقق يجب أن يكون خارجياً وليس من وزارة المالية العراقية، واضح المرامي تماما، ويكشف كل شيء، فالطرف المستثمِر والمتربِّح يريد أنْ “يحسب الحِسبة لوحدهِ” وبطريقته الخاصة والتي لا تقبل شريكا! أما يحدث لاحقاً من رفع الحسابات الى الوقف الشيعي ليضعها بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي “لغرض المراجعة والتدقيق”! فالمهم ليس التدقيق والمراجعة المباشرة من قبل جهاز الرقابة المالية في وزارة المالية بل تُجرى المراجعة والتدقيق من قبل العتبة ثم ترفع الى إدارة الوقف “لتوضع بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي لغرض المراجعة والتدقيق”. بخصوص الفقرة الأخيرة فلم يؤكد مصدر رسمي سواء من وزارة المالية او غيرها وطيلة العشرين سنة الماضية أن مراجعة وتدقيقا قد أجريا على حسابات الأوقاف أو العتبات الدينية. وحتى إذا افترضنا جدلا صحة المعلومة الخاصة بإجراء المراجعة والتدقيق من قبل الرقابة المالية الوزارية فلماذا تبقى هذه المراجعة والتدقيق والمبالغ الخاصة باستثمارات العتبات والأوقاف سراً من الأسرار لا سبيل إلى الاطلاع عليها من قبل الرأي العام والإعلام المستقل؟
خلاصات
إن ما تقدم التطرق إليه من ملفات فساد موثَّقة إعلاميا في هذه الدواوين وإدارات العتبات لا يعني بأية حال من الأحوال أنَّ الفساد مقتصر عليها، بل هي نماذج ربما تكون أخف وطأة قياساً إلى نماذج أخرى في دوائر ومؤسسات حكومية، وهي بمثابة رأس جبل الجليد الذي يظهر للرائي وما خفي كان أعظم.
لقد تحولت الدولة العراقية ومؤسساتها من دولة تديرها عصابة مسلحة صغيرة قبل الاحتلال سنة 2003 إلى أخطبوط من عشرات العصابات بملايين الأذرع مهمته توزيع الريع النفطي الهائل على شبكة معقد ومتضخمة باستمرار من الزبائن والموالين النافذين الذين يمنحون ولاءهم واستعدادهم للتضحية بكل شيء مقابل الفوز بحصتهم المقررة من كعكة الفساد وضمان ديمومة نظام الحكم. إن مؤسسات الدولة العراقية في أيامنا لم تعد تعاني من الفساد فحسب، بل يمكن القول إنها أصبحت تتنفس الفساد في شهيقها وزفيرها، وإنها ستسقط إذا توقفت عن إدارة الفساد تحت غطاء توزيع الريع النفطي على الشبكة الزبائنية، والتي تقتطع لأهل النظام وهم بالآلاف حصة الأسد من مليارات الموازنة، مقابل الفتات للجيش المليوني من أصحاب الرواتب ومخصصات الإعانة المجتمعية (خصصت الموازنة أكثر من 150 ترليون دينار للموازنة التشغيلية ومنها الرواتب من مجموع 197 ترليون دينار هو إجمالي الموازنة، وبهذا يبقى 47 ترليون دينار للمشاريع الاستثمارية)، والذين يقترب عديدهم وفق آخر الإحصائيات من خمسة ملايين مُعيل تم تكبيلهم بسلسلة الرواتب والذين عليهم استهلاك ما يتم استيراده من غذاء من دول الجوار.
*ولكن عدد هذا الجيش للبطالة المقنعة في تزايد، وخصوصا حين حولت الحكومة الحالية برئاسة السوداني سياسة ضخ ونثر التعينات العشوائية لتكون بمثابة رشى تقدمها الحكومة للعاطلين عن العمل والخريجين الجدد من الكليات والمعاهد في بلد لا ينتج حتى غذاءه، وهذا الواقع بحد ذاته سيكون عامل خلخلة واهتزاز عنيف في الوضع العام مستقبلا، بمجرد أن ينخفض سعر برميل النفط أو أن تمنع وزارةُ الخزانةِ الأميركية العراقَ من التصرف بعائدات نفطه والتي يشترط أن تمر أولا عبر الممرات المالية الأميركية. ألا يوحي هذا الوضع الاقتصادي والسياسي الذي يعيشه العراق وشعبه منذ عشرين عاما بأنه في الحقيقة بلد مختطف وشعب يعيش تحت التهديد بالإفقار والتجويع والحصار فيما تشارك حكوماته الفاسدة في تنفيذ هذه الاستراتيجية الإبادية؟
*كاتب عراقي