صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

القانون في طريقه إلى التقاعد

(القاعدة القانونية) هي أولى أبجديات القانون التي تعلمناها حين درسنا القانون في الجامعة, وهي عامة مجردة منظمة للسلوك متبوعة بجزاء تفرضها السلطة القانونية على من يخالفها, وهي تتصف بصفات عدة, فهي أخلاقية لأنها تنظم السلوك وتحافظ على الأخلاق العامة للمجتمع واجتماعية لأنها وجدت لتنظيم قضايا المجتمع بكل تفاصيلها وهي مجردة لأنها لا توجه إلى شخص بعينه أو واقعة بذاتها أما العمومية فهي الأثر المترتب على هذا التجريد وأنها يجب أن تكون متبوعة بجزاء, فإن كانت دون جزاء فلا قيمة لها, وأن السلطة القانونية المخولة وفقا للدستور هي الوحيدة التي تقوم بتنفيذ هذا الجزاء لا غيرها.

وتبقى هذه المواصفات ثابتة وإن كانت بعض القواعد القانونية منظمة لحياة بعض الطوائف والأقليات لأنها لم توجه لشخص معين بذاته في تلك الطائفة أو الأقلية وإنما لمجتمعاتهما بأكملها, وما الطائفة أو الأقلية إلا مجتمع متكامل.

لقد لجأ الإنسان الأول ومنذ فجر التاريخ إلى تقنين حياته ووضع نظاما قانونيا يحافظ على ديمومة الحياة بشكلها المدني والحيلولة دون تحولها إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف وأيقن أنه ولا بد أن يكون هناك حامي وحارس للمنظومة الاجتماعية المترابطة التي تتصف بالعدالة وهو القانون وكان العراق مهدا لأولى الشرائع والقوانين في العالم القديم, في الوقت الذي كانت فيه باقي المجتمعات تعيش حياة بدائية متخلفة تسودها شريعة الغاب, فكانت إصلاحات أوركاجينا وشريعتي اورنمو و لبت عشتار وقانون أشنونا ثم قانون حمورابي الملك البابلي العظيم الأساس الأول لمفهوم القانون والعدالة بين أفراد المجتمع, حيث رسمت تلك القوانين حدود العدالة وأسست للحقوق المدنية وفرضت العقوبة على من يخالفها مهما كان حتى أرست تلك الشرائع الرائدة أسس القانون بمفهومه الحديث.

في خبر غريب نشرته وزارة العدل على موقعها الرسمي قبل يومين والذي هز كياني وقد هز بالتأكيد كيان المتخصصين في القانون بكل عناوينهم, كان عنوان الخبر كما يلي:( بهدف إحلال السلم المجتمعي في عموم محافظات البلاد, وزارة العدل تعلن عن انطلاق مشروع التحكيم العشائري ودخوله حيز العمل)!! وجاء في ديباجة الخبر (أن هذه الخطوة تأتي في سياق مذكرة التفاهم الخاصة بالتحكيم العشائري والموقعة مع وزارة الداخلية من أجل ترسيخ أسس القانون وإشاعة ثقافة التسامح في حل النزاعات وليس أن تكون بديلا للقانون! وأن الوزارة اعتمدت على كوكبة من المحكمين العشائريين المعروفين وتم تسليمهم شهادات تقريرية مبينة أن المحكمين العشائريين (العوارف) يعدون صمام الأمان للمجتمع, وسيكون لهم دور كبير في تدعيم الأمن والسلم المجتمعي في عموم محافظات البلاد, بالإضافة إلى إبعاد من يدعي هذه الصفة بدون حق ويؤدي إلى الإخلال بهذا النظام الاجتماعي المترابط! (رابط الخبر https://www.moj.gov.iq/view.3751/)

في الحقيقة ولكي لا نبخس الناس أشياءهم, أن هناك الكثير من وجهاء العشائر وقادتها ممن يشار لهم بالبنان لحكمتهم واتزانهم وتاريخهم المشرف, لكن ذلك لا يعني أن يحشروا في هذا الموضوع الخطير والذي سيصبح أداة مشرعنة لتحييد القانون, فالنفس البشرية تبقى أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي, والإنسان ليس معصوما من الخطأ وهو بطبيعته ميال للمحاباة ولا بد أن يحابي البعض على البعض من باب العاطفة والقرابة والمجاملة وحتى المغريات ناهيك عن فتح باب جديد للنزاع العشائري للتنافس على هذا المسمى الجديد (العارفة), ولذلك فان القانون يبقى الفيصل في تنظيم حياة الناس وحل مشاكلهم ويبقى القاضي هو العارف بما سوف يحكم وتبقى إجراءات الترافع هي الأصلح وسيكون هنالك مجال للمحاكم ألأعلى أن تتدخل وتبدي رأيها الملزم إن أخطأ القاضي في تقدير الحكم وهو الأجراء الأصولي المتبع في كل دول العالم المتقدمة والمتحضرة.

إن هذا الأجراء أنما يعد مصدر خطر يهدد السلم والأمن المجتمعي قبل أن يساهم في استقراره وسيفتح الباب على مصراعيه إلى ما لا يحمد عقباه لأن النظام العشائري وإن أعتمد على أناس يتصفون بالحكمة والنزاهة إلا أنه متشعب ومختلف من منطقة لأخرى وغير مدون أو مكتوب وليس له أسس ثابتة, فما يكون مقبولا ومتبعا لعشيرة ما و في مكان ما ليس بالضرورة أن يتطابق وشرائع العشائر المنتشرة في أماكن أخرى وكذلك فان الترسيخ الطائفي الذي روج له وتم تثبيت دعائمه بعد العام 2003 كان له الدور الكبير في إثارة المشاكل العشائرية حتى ظهرت قصص وروايات حقيقية عن مشاكل لا يمكن أن يستوعبها العقل البشري السليم لأنها لا تمت للمنطق بصلة.

كان من الواجب على وزارة العدل أن تكون أكثر الوزارات دفاعا عن القانون وحرصا على تطبيقه وإن ما قامت به يعد خرقا خطيرا للدستور العراقي النافذ ومخالفة صريحة للمادة التاسع عشرة منه والتي تحدد بصراحة وبكل وضوح في الفقرة الأولى منها استقلالية القضاء (القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون), حيث لا سلطة على القضاء غير القانون, ثم تتدرج في سرد باقي الشروط دون أن تدع مجالا للشك في أن القضاء ونصوص القانون لا بديل عنهما في إحقاق الحق وإدامة العدالة ولم يذكر الدستور أنهما بحاجة إلى تدخل العشائر وبأي شكل من الأشكال وتحت أية عناوين أو مسميات, فكيف أطلقت وزارة العدل هذا المشروع؟ وأين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية منه؟ ولماذا وضعت هذا المشروع بهذا الوقت بالذات؟

إن هذا المشروع سوف يكرس العشائرية بعد أن تم تكريس الطائفية وسوف يقود العراق إلى خطر يهدد أمنه واستقراره في الوقت الذي تصول وتجول فيه العصابات المنظمة وتتحكم المافيات السياسية التي فاقت سلطتها سلطة القانون بمصير المواطن المغلوب على أمره وأصبحت تضع القوانين وفقا لمصالحها دون أن تستطيع السلطات الثلاث تحجيمها بل وأصبحت هي من يعين القاضي والوزير والمسؤول وهي التي تتحكم بالقضاء الذي يفترض أن يكوم مستقلا وفقا للدستور! ووصلت الخروق القانونية إلى حد صار يهدد العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه لغربه وأصبح المواطن لا يستطيع حماية نفسه وصار التفكير بالهجرة وترك البلد هو الحل الأمثل لمعظم العراقيين بعد أن أيقنوا أن القانون في بلدهم أصبح عاجزا عن حمايتهم وأن لعنة بعض التقاليد العشائرية الطارئة باتت تطاردهم أينما حلوا حتى تحولت إلى كوابيس مرعبة تؤرق استقرارهم خصوصا بعد أن أصبحت الكلمة البسيطة التي تخرج من فم أحدهم دون قصد سببا لأكبر نزاع عشائري قد يهدد حياتهم وأموالهم أو يهجرهم من ديارهم وعلى ما يبدو إن القانون قد أحيل على التقاعد ليحل محله قانون العشيرة ؟!.

أقرأ أيضا