عندما أصبحت واشنطن صانعة القرار في تشكيل الشؤون العربية في أوائل الخمسينيات، تضاءل تدريجياً نفوذ لندن وباريس في الشرق الأوسط. وقد مكّن هذا التغيير واشنطن من توفير الحماية الأمنية للأنظمة العربية الاستبدادية. في ذلك الوقت، كانت واشنطن منشغلة بهزيمة الاتحاد السوفيتي والحد من نفوذه في المنطقة. لقد استثمرت موارد كبيرة لإسقاط الزعيم القومي في مصر، جمال عبد الناصر، والقائد السياسي التقدمي في العراق، عبد الكريم قاسم، إذ كان يُعتقد أن هذين النظامين سيعطلان خطط واشنطن للعالم العربي.
في تلك الحقبة، تمكنت واشنطن من كسب دعم بعض المثقفين العرب، لكنها لم تصل إلى هدفها المتمثل في خلق قاعدة واسعة من المتعاونين، فقد كان المثقفون العرب في الغالب تقدميين ووطنيين، ورفضوا المساومة على الدفاع عن حقوق الشعوب العربية في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
بعد وفاة عبد الناصر، وخاصة بعد الهجوم على العراق عام 1991، أنشأت واشنطن “الطابور الخامس” من المثقفين الذين شجعتهم على الترويج لرسائل مسمومة صُممت خصيصًا لخدمة المصالح الإسرائيلية وإضعاف عزيمة العرب في تحقيق استقلالهم وحقوقهم في بناء مجتمع ديمقراطي. وقد تزامن هذا التحول مع صعود المحافظين الجدد في واشنطن وتغلغلهم في مؤسسات الأمن والمال والإعلام.
بحلول عام 2003، تجرأ عدد كبير من المثقفين العرب على تبني ونشر رسائل تهدف إلى إخضاع المصالح الوطنية للمصالح الأجنبية. وقد شجعت الأنظمة الاستبدادية العربية، بل ووفرت دعمًا ماليًا لأولئك الذين زيفوا الحقائق وشوهوا المصالح الوطنية والرسائل التقدمية. وخلال هذه الفترة، تبنى العديد من المثقفين العرب الصهيونية بحماسة، أو أصبحوا – عن غير قصد – “صهاينة مسلمين”. كما انضم إلى هذا التيار الانتهازيون والمتطرفون الدينيون الذين روجوا لمفاهيم خطيرة بشكل عدواني.
كانت هذه الأفكار تُروج في الأصل عبر وسائل الإعلام، وخاصة الصحف والقنوات التلفزيونية التي أنشأها الحكام العرب الأثرياء بالنفط. وبعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، ازدهرت عدة وسائل إعلامية في العديد من الدول العربية، لا سيما العراق ولبنان والأردن واليمن والمغرب. ومن بين هذه الوسائل: “الحرّة”، “الحدث”، “الجزيرة”، “الديار”، “المستقبل”، “نداء الوطن”، وغيرها. وقد كانت هذه الوسائل ممولة إما من واشنطن ولندن أو من الأنظمة العربية الاستبدادية، وذلك بهدف الترويج بشكل تدريجي لرسائل خطيرة تهدف إلى تسميم الفكر العربي وشل التفكير التقدمي.
نشرت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” في 30 نوفمبر 2005، تقريرًا عن كيفية تواطؤ الولايات المتحدة مع صحيفة المدى العراقية، لكتابة مقالات تهدف إلى تحسين صورة الاحتلال العسكري للعراق. وذكرت الصحيفة أن “الولايات المتحدة دفعت للصحف العراقية لنشر مقالات بعناوين مثل “العراقيون يصرون على الحياة رغم الإرهاب” منذ بداية هذا العام.
إن ازدهار المثقفين العرب الذين يروجون للصهيونية السياسية وضرورة تبني مشروع واشنطن للعالم العربي هو نتيجة جهود مكرسة لإجهاض التحولات الديمقراطية الحقيقية والمشاركة السياسية الواسعة. يروج هؤلاء “الصهاينة العرب” للأفكار التالية:
– تمتلك واشنطن مفتاح حل الأزمات السياسية في الشرق الأوسط.
– إيران، وليس إسرائيل، هي مصدر عدم الاستقرار في المنطقة.
– الصراعات الطائفية هي القاعدة في التاريخ الإسلامي.
– تغير الواقع على الأرض، ويجب على العرب قبول “مقترحات السلام” الإسرائيلية ونسيان أراضيهم التي سُلبت بالقوة.
– مقاومة مشروع الاستعمار الجديد هي مجرد وهم.
– النظام السياسي الضعيف هو النظام السياسي المفضل.
– الاقتصاد النيوليبرالي هو الحل لركود الاقتصاد العربي.
في سياق العراق، شارك المثقفون والصحفيون في دعاية خطيرة تهدف إلى تعزيز الإرهاب وإبقاء البلاد في حالة عدم استقرار دائم. تركزت هذه الحملة على تفكيك قوات التعبئة والمقاومة، والتحريض على الكراهية تجاه إيران، وتبرير التدخل العسكري التركي في العراق، وإنكار حق العراق في حماية الأقليات المضطهدة في سوريا ودول أخرى، والمطالبة بتقديم تنازلات سياسية واقتصادية لواشنطن، بل والاستسلام الكامل لإملاءاتها.
في الترويج لأجندتهم، يسعى المثقفون الصهاينة العرب إلى خداع الرأي العام وصرف انتباهه عن حقيقة أن الشعوب العربية وثقافتها تواجه تهديدًا وجوديًا حقيقيًا، يتم الترويج له وتشجيعه من قبل جهات مؤثرة في واشنطن.
هذا التهديد يختلف عن ذاك الذي ظهر في عام 1991، عندما كان هناك تحالف علماني بين القوميين المسيحيين، ويمثلهم ديك تشيني (وزير الدفاع حينها)، واليهود العلمانيين، ويمثلهم بول وولفويتز (مساعد وزير الدفاع). كان لهذا التحالف هدفان رئيسيان: القضاء على “أسطورة الشارع العربي”، وتحويل الإسلام إلى مجرد طقوس دينية بلا تأثير.
أما اليوم، فإن التهديد مختلف تمامًا. فالإدارة في واشنطن أصبحت مشروعًا مشتركًا بين المسيحيين الإنجيليين المتطرفين والجماعات اليهودية اليمينية. أهدافهم واضحة تمامًا: القضاء على الإسلام كدين له مبادئه الأخلاقية وطريقته في الحياة، وحرمان العرب من أي حق في العيش بسلام وازدهار.
يتم السعي لتحقيق هذين الهدفين بقوة، حيث تم استخدام جميع الوسائل المتاحة. فقد صرّح الرئيس ترامب بأن من يحتجون على الحرب ضد الفلسطينيين ويدعون إلى وقف إطلاق النار هم “إرهابيون”، متوعدًا: “سنجدهم، ونعتقلهم، ونرحلهم من بلادنا – ولن يعودوا أبدًا”. أما وزير دفاعه المعين، بيت هيجسيث، فقد هتف ذات مرة: “اقتلوا جميع المسلمين! اقتلوا جميع المسلمين!” (رولينغ ستون، 2 ديسمبر 2024)، وأكد أن “الإسلام ليس دين سلام، ولم يكن كذلك يومًا” (واشنطن بوست، 23 نوفمبر 2024).
مؤخرًا، نشرت صحيفة *إسرائيل هيوم* (3 مارس 2025) مقالًا يهاجم النبي محمد ويحرّض على الكراهية ضد جميع المسلمين، جاء فيه: “لقد تجنبنا مناقشة وحشية محمد وطبيعته الدموية في بداية الإسلام. لكن حقيقة أن العديد من المسلمين يعتبرون هذا التاريخ الدموي رمزًا دينيًا وأخلاقيًا… تجبرنا على تغيير نهجنا”.
الجرائم المستمرة ضد الشعوب في مختلف أنحاء العالم العربي ليست مجرد مصادفة، بل هي جزء من مشروع عنصري مُحكم يهدف إلى إدامة الدمار والبؤس، بتواطؤ من الحكام والمثقفين العرب. إن صعود “المثقفين الصهاينة العرب” تطور مخيف، والتصدي له هو مسؤولية أخلاقية وواجب وطني، إذ يمثل تهديدًا للحضارة. أما تجاهله، فهو وصفة مؤكدة لإراقة الدماء والفوضى.
عباس ج. علي.. أستاذ متميز في جامعة إنديانا في ولاية بنسلفانيا.