الشيء الذي يبعث الأمل في العراق، أنه ما زال فيه من يتكلم بلغة المثقف الفاهم والمتعالي على سخافات وهراء الساسة، وما زال فيه أيضاً من يحصد الجوائز الإقليمية والدولية بلغة الثقافة وبانتاجهِ المعبر عن معاناة بلدهِ وشعبهِ. هم حالة معبرة عن معارضة صامتة ترفع لافتاتها بلغة مختلفة جذرياً عن لغة المعارض السياسي وعن موالاة الساسة القابعين في صوامعهم ودهاليزهم البرلمانية والحكومية.
إنهم الأقلية المثقفة اللامنتمية الى ألأغلبية السياسية، هم من فئة تَنظرْ إلى السياسيين من موقع مرتفع وتحاول أن تقتبس من هول انتكاساتهم وفواجعهم التي تملأ المشهد العراقي، لتحكي قصة قصيرة وتنظم قصيدة فيهما الوصف والتشبيه وجميع الصور البلاغية المعبرة، وتروي بنكهة عراقية ونسخة عراقية خالصة كل ما كُتبَ وحُكيَ بروايات نجيب محفوظ وماركيز وتولستوي وجارلس ديكنز، ومسرحيات برنادشو وشيكسبير واليوت،وتنحت نصباً يدغدغ منحوتات جواد سليم، ليعبر عن ضياع الثقافة ومحاولات انقاذها.
في بلدي كثيرٌ من يدعي الثقافة وكثرٌ من طالب بوزارة الثقافة، كلٌ يفهم الثقافة بطريقتهِ الخاصة، حتى المتخاصمين مع الثقافة والحداثة تسلموا وزارة الثقافة وأداروا مسارحها ومعارضها وأشرفوا على طباعة وصياغة ثقافة وتراث البلد،ومازالوا يصرون على تسلمها مرةً تلو الأخرى، ولازال الكثير لا يستوعب عملية او محاولة التوافق عليهم وتوزيرهم لوزارة تعبر عن جمال المنطق والروح والجسد، لذا رأيناهم في كل مرة لم يصمدوا فيها كثيراً ويهربوا منها عندما يدركون متأخرين أن الثقافة شيء آخرغير الذي توقعوه.
وفي بلدي كثيرٌ من يريد أن يمسح دور الثقافة ويحولها الى نسخة مقلدة من ثقافة مدعي الثقافة والتمدن والتحضر، لم يعد لدينا ملكاً او سلطاناً أو حتى ديكتاتوراً يمنحُ لقب باشا أوبيك أوينوط قلادة الفارس لمستحقيها من العلماء والادباء والفرسان كل حسب أحقية انجازه.
على مدى السنين لم يشهد العراق مثل هذا الجفاف والعقم في السياسة والاقتصاد وبناء المجتمعات،السياسة العقيمة غير المنتجة التي تميزت بها الحالة العراقية أضفت على المشهد العراقي صورة فوضوية، لم يستطع السياسي العراقي على مدى خمسة عشر عاماً من رسم خارطة عراقية تستوعب المثقف والسياسي معاً في بوتقة واحدة.
رغم ذلك إستطاع العديد من المثقفين أن يتجاوزوا عتمة المشهد بمجسات تتحدى وتبدد العتمة لتضيء القليل واليسير من مسارات النفق المظلم. وتكتب وترسم وتعبر عن واقع عراقي كئيب متشائم غير قابل للعيش والتعايش مع الآخرين، كما وصفه الروائي أحمد سعداوي في روايتهِ (فرانكشتاين) بالقول (لقد انتهت المعارك ولم تنته أيضاً.. لم ينتصر أو يهزم أحد.. مجرد هدنة غير محددة.. كما هو حال كل شيء.. الأزمات تتأجل وتسافر معنا للأمام).
وواقع متفائل قابل للعيش كما عبرت عنه الروائية (شهد الراوي) في رواية (ساعة بغداد) التي تتحدث فيها عن ضياع الإنسان العراقي خلال الحروب والازمات المتواصلة واصفةً المشهد الاخير للعراق والعراقيين بصور متفائلة تبعث الامل ولو بعد حين (في بيوت وأحياء حولتها مفخخات داعش وصداها من المعارك الى اطلال واكوام من الحجارة تفوح منها رائحة الموت والبارود تنبتُ في وسطها زهرةً، متحديةً كل هذا الحطام والدمار).
بتفاؤل شهد الراوي وسوداوية أحمد السعداوي، يبرز دور المثقف والأديب متحدياً فساد سلطة كاملة ويأس جيل كامل لم يعد يرى سوى الفوضى والتعاسة، لينقل رسائل دافئة تحيي الكثير من الآمال والمشاعر لدى الضائعين والتائهين في زمن الفوضى الكبرى.