الخطوة الأولى لبناء المجتمع هو خلق حالة التجانس بين الطوائف والأعراق المختلفة. ذلك إنّ الإطار التاريخي الذي يشكّل وحدة ثقافية ما -وهو اللغة- يسهم في عملية البناء. والمفهوم الأبرز في هذا السياق هو المواطنة كصيغة قانونية تربط هذا التجانس. بعبارة أخرى، إن وحدة اللغة مقدمة مهمّة للتجانس الثقافي، ومفهوم المواطنة مقدمة مهمّة للتجانس القانوني، أي أن المواطنين كلّهم متساوون أما القانون بصرف النظر عن هوياتهم الفرعية. فمن هنا تكتمل هوية الأمّة بهذه المقدمتين الآنفَتين.
تغدو المواطنة عملية صراع صحيّة؛ الدولة هي الحارس الأمين التي يقع على عاتقها واجب حماية المواطنين، والمواطنون بما يبذلونه من التزامات قانونية تجاه الدولة فهي مدينة لهم بسبل العيش الكريم، وتشرّع لهم القوانين التي تضمن حقوقهم. ولكي تكتمل عملية البناء الاجتماعي، لابد أن يكون البناء متوازياً مع تشييد مؤسسات الدولة. تتكوّن الدولة من أجهزة إدارية، قانونية، أمنية، ومصرفية، وتعليمية، أجهزة مستقلّة عن الميول الحزبية والطائفية والعرقية، فإن انتفت الاستقلالية تتحول الدولة إلى وحش كاسر يأكل أبناءه!.
والدولة التي نرغب فيها هي دولة العدالة الاجتماعية، إذ لا تتوقف على العدالة السياسية فحسب، بل تكون العدالة الاجتماعية أحد ركائزها، من خلال توفير الفرص الملائمة للمواطنين، وتوزيع الثروة للفئات الأقلَ حظاً، لا أن تنحصر الثروة بيد عصبة معينة لتتحول الدولة إلى شركة ضخمة بأيديهم. بعبارة أخرى: دولة ذات أجهزة مستقلة ومحترفة يكون همّها الأقصى رفع المعاناة عن مواطنيها والسعي إلى سعادتهم.
إن العلاقة بين الدولة والمجتمع علاقة تضايف؛ لا يكتمل أحد الطرفين إلّا بوجود الطرف الآخر. فالدولة هي النموذج الذي يعكس قدرة الشعب على التضامن المواطني، لا التضامن الطائفي! الذي يقوّض أي محاولة لبناء الدولة. لقد كلّفت حقبة البعث التكريتي المجتمع العراقي خسائر مروّعة حينما تحوّلت الدولة بمؤسساتها إلى دوائر عشائرية وطائفية، وثمّ رٌبِطَتْ هذه المؤسسات فيما بعد بشخص “القائد الضرورة”.
لقد كان المجتمع العراقي عبارة عن قطع دومينو بيد الدكتاتور، فبمجرّد نقرة بسيطة لهذه القطع قذفت بنا نحو مستنقعات آسنة، وبسبب سياساته الرعناء اكتوى المجتمع العراقي بأربع محطات تاريخية موجعة، قذفت العراق نحو الهامش ممزّقةً معها البناء الاجتماعي شرّ ممزّق: الحرب العراقية الإيرانية، غزو الكويت، الحصار الاقتصادي، الغزو الأمريكي. وبهذه النتيجة يعلن العراق خروجه من حركة التاريخ تماماً ويسقط في الثقب الأسود. ولهذه المنعطفات الأربع خاصيّة فريدة في تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي، “فلابد” من اختيار حفنة من المنتفعين يتخذون الديمقراطية مطيّة لإغراضهم الفئوية الضيقة.
إنّهم المرآة العاكسة لحجم الخراب الذي طال المجتمع العراقي، وبهذه تكون خاتمة الانهيار وصلت لنهايتها القصوى. على أية حال، ثمّة هرج ومرج، وامتيازات طائفية طفت على سطح” العراق الجديد” لتعلن مؤسسات الدولة مرّة أخرى تضامنها المطلق للحزب والطائفة. فالدولة العراقية تعاني مؤسساتها في هذه اللحظة من سم زعاف يتجرعه العراقيون كل يوم، نتيجةً لهذه الامتيازات الطائفية والعرقية، وهذه المرّة امتيازات مقننة يحرص عليها الدستور ويشرعنها، فنحن كما نرى إن رأس الهرم متداعي، ولنا قصص لا تنتهي في تنظيماتنا الهرمية؛ ففي اللحظة التي يسقط فيها رأس الهرم تسقط معه سائر الأجزاء نحو الهاوية والضياع. إن الضمانة الوحيدة لعبور حالة التردي والضياع يمكن عبورها بالتدريج من خلال بناء المجتمع المواطني وهذه الخطوة الواجبة تكتسب أهميتها في الحالة التي يرفض فيها المجتمع العراقي دستور المحاصصة الطائفية سيئة الصيت، لكي نتجه خطوة إلى الأمام لبناء الدولة، والسعي لخلق التجانس بين الأطراف المتنافرة في المجتمع العراقي الذي يتمتع بثروة رائعة من التنوع المادي والمعنوي، قبل أن تأكلنا الطائفية والطائفيون، ونغدو حاضنة أبدية لكل أشكال الاستبداد.