صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

المرهفون النوادر!

يقام سنويا على بعد أمتار من الدكان مصدر رزقنا في أول سوق البصرة، مأتم في ذكرى استشهاد الإمام الحسين الوفي لنفسه ولغد أمته على مدى 10 أيام من شهر محرم الحرام، وكذا في أربعينية استشهاده.

 كنت أعود من المدرسة كي أتسلم الدكان وفيه وعاء من السكر وآخر من الشاي وبضعة علب حليب نستلة وشفرات حلاقة وصابون الرقة وبسكويت الجميلى وهلم جرا.. فيذهب والدي ويدلف في وسط المأتم..  وحالما يتلو “الروزخون” الحكاية ويصل ذروة الاستشهاد يبكي الناحبون، وكنت أميز صوت أبي وهو يبكي بين كورال الناحبين، حتى حين يصمتون أسمع بقايا نشيج والدي.. صحيح ان والدي كان يبكي الحسين، ولكني كنت أعرف أنه يبكينا.. كان يبكي حالنا.. كان بكاؤه خزين عام من الفاقة والعوز، وهو ونحن وأمثالنا نقاوم كي لا نمد أيدينا للآخر.. نصمد كما الحسين حتى احتزاز الرقبة!.

والمرهفون النوادر ليسوا كمثل أبي فحسب، بل هناك فئة يداف فيها الإرهاف بالوعي والكلمة النبيلة والرؤية الوفية للذات والوفية للوطن.. فلم ينحنوا أمام المغريات الوسخة في مسار حقب العراق المتفاوتة والمتقاربة.. فئة المثقفين الذين لا نراهم الآن ويمرون ويختفون خلف الأسيجة اللامرئية وبعيدا عن النذالات.. وهم أيضا ينشجون حينا بصمت وأحيانا بصوت، مثل أبي في مأتم الحسين.. وهؤلاء المرهفون النوادر وقفوا صامتين مندهشين أن يرحل الدكتاتور غير مأسوف عليه، بل مأسوف عليه أنه لم يبق حيا ليرى.. ثم يصحو المرهفون النوادر وعم يتساءلون ماذا يمكن للدكتاتور أن يرى لو بقي حيا..!؟

والمرهفون النوادر كثير منهم عزفوا لحن موطني في مواجهة الرصاص المعلن والكاتم، وكثيرون لونوا جدران النفق المظلم فأضاؤوه بالزيت الملون، ثم انسحبوا حين أدركوا اللاجدوى، وحين أدركوا بأن النفق لا يزال الدرب فيه طويلا وأن ألوان الزيت لا تكفي لتزين جدرانه بلون الحلم المشروع.

والمرهفون النوادر يعرفون بأن بناء الوطن ليس صعبا.. وهو أسهل من رسم لوحة على جدران النفق المعتم.. أسهل بكثير وكثير، ثم يأتي السؤال من رحم  الجواب.. الوطن السعيد واضح الرؤى والرؤية.. فقبل أن تركن للنوم بعد أن يهدك التعب ترى الوطن واضحا أمام عينيك، تنساب في أنهاره مياه عذبة صافية ليست ملوثة وترى المبدعين يتلبسون شخوص التاريخ وكلكامش مع أنكيدو يصارعان وحش الغابة.. والناس تحلق في فضاءات الله في جغرافية العراق التي تحتاج لرشف متعها ومعاني تلك المتع إلى أعمار وقرون.. فيمزق المرهفون النوادر جوازات سفرهم لأن العراق أكبر من الدنيا برمتها.. تذكرت يوم كتبت مشهدا في قصة فيلم الحارس.. مشهد حلم بين الحارس حميد “مكي البدري” والأرملة الجميلة التي يحبها أم عبد “زينب”.. وهما في الحلم .

أم عبد – حميد..

الحارس – أم عبد..

أم عبد – شكد تحبني..

الحارس – أحبج بكد الدنيا..

أم عبد – الدنيا زغيره حميد..

الحارس – أحبج بكد بغداد..

والمرهفون النوادر يعرفون كما الحارس العاشق أن بغداد أكبر من الدنيا.. وحين يحاولون  أن يلمسوا طرف رداء المجد في بناء الوطن كل في طينته ويعيدون فخر الأطيان لتشبه الرقم اليومية للسومريين يدونون فيه أول سمفونية وأول نوتة موسيقية في التاريخ وأول قصيدة كتبت، وأول إله وآلهة نحتت،  وأول معنى للعنب ومشتقاته في المعابد السومرية.. يصحون من نومهم ويفيقون من أحلامهم.. لترتسم على شاشات هواتفهم النقالة لحظة أنفجار في سوق الملابس العتيقة فيغيب الباعة والمشترون  عن الحياة وتبقى قمصلة البائع والشاري على حمالة الخشب في لحظة ساكتة من الزمن وخلفها بقايا جدار ملون بالدم الزاكي.. اللوحة تشبه جداريات نفق تشرين التي لونها المرهفون النوادر.. تبقى لوحة تاريخية نادرة، تلعن القتلة والحاكمين.. على حد سواء..!

سينمائي وكاتب عراقي

أقرأ أيضا