بعد أن هدأت زوبعة قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل، ونجاح قوى الضغط المدنية بابعاد شبح التصويت عليه بشكل شبه نهائي على الاقل في الفترة الحالية، كان علينا ان نناقش بهدوء تبعات هذا التعديل واثاره الأخرى، استباقا لأي خطوة مماثلة أخرى.
لقد أجمعت الآراء المناوئة للمشروع بأن المرأة (الطفلة) ستكون الضحية الأولى والأخيرة، خصوصا وان مشروع قانون التعديل الجديد قد أباح تزويج الصغيرات ممن هن في عمر الطفولة، وفقا للمادة الأولى من التعديل التي تنص في بندها الجديد الذي حمل رقم 3 في الفقرة أ “يجوز للمسلمين الخاضعين لأحكام هذا القانون تقديم طلب إلى محكمة الأحوال الشخصية المختصة، لتطبيق الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية وفق المذهب الذي يتبعونه”، حيث أن المذاهب الإسلامية أجمعت على شرعية تزويج الصغيرات، بل حتى الأطفال.
حينما أنظر لما هو أبعد وأعمق مما تراه الغالبية المعارضة لهذا القانون من ان المرأة هي الضحية أجد ان تلك الرؤى على قدر كبير من التواضع!! لأن المجتمع العراقي برمته سيكون الضحية وليست المرأة وحدها, وهذا ليس من باب التكهن أو الاعتقاد الشخصي وإنما هو رأي مبني على وقائع وحقائق منطقية لا يمكن للعقل الواعي والمتفتح أن يجهلها أو يمر عليها مر الكرام, فالأضرار التي ستنجم عن هذا التعديل أكبر وأعظم من قضية تزويج المرأة بعمر الطفولة، بل ستكون زلزالا مدمرا لمجتمع بالكامل لا يمكن إعادة بنائه ربما لقرون، خصوصا وأن مشروع التعديل يعد انتهاكا صارخا للمواثيق والأعراف الدولية لحقوق الإنسان وتكريسا صريحا للطائفية، وسوف تفتح باب الصراع الطائفي تحت تشريعات قانونية قد أسس لها بخبث عند وضع الدستور، فضلا عن تهميش وإقصاء المكونات الرافدينية الأصيلة كالمسيحية والصابئية والايزيدية التي لم يهمل حقوقها التشريع الأصلي, ولو استعرضنا تلك الأضرار سنقف عند قناعة راسخة بأن المجتمع سيكون هو الضحية والمتضرر بشكل مباشر وغير مباشر, فالضرر المباشر سيكون اجتماعيا ونفسيا وصحيا وتربويا وثقافيا أما غير المباشر فسيكون قانونيا و قضائيا وسياسيا واقتصاديا, وبغض النظر عن التسمية فأن كل تلك الأضرار ترتبط ارتباطا وثيقا ببعضها:
أولا: الضرر الاجتماعي, فتزويج الصغيرة سوف يحرمها دورها الاجتماعي كأم مؤثرة فاعلة والذي يعد أساسا لبناء مجتمع متعلم واع فيما لو كانت أما ناضجة متعلمة واعية و مثقفة وسوف يبقيها أما متخلفة لا تحمل من تجارب الحياة شيئا وهذا ما سينعكس على خلفها, وكما قال حافظ إبراهيم “الأم مدرسة إذا أعددتها… أعددت شعبا طيب الأعراق”, فالأم عمود الأسرة ومصدر إشعاعها وعندما يكون هذا العمود هشا فإن الأسرة سوف تسقط لا محالة وسيكون المجتمع في مهب الريح هذا إن افترضنا أن الزواج سيستمر, لكن الطامة الكبرى حين يتم الطلاق بعد فترة ليترك إنسانة منبوذة (المطلقة) في نظر مجتمع مريض تاركة أبناء وبنات تحت رحمة زوجات الأب أو أزواج الأم هذا إذا لم يتشردوا كما نرى اليوم المئات منهم على قارعة الطريق.
ثانيا: الضرر النفسي, فكل علماء النفس لا سيما من قضى حياته في دراسة نفسية الطفل والعوامل المؤثرة في حياته كـ”فرويد” و”بياجيه” و”فيتوجيسكي” و”اريك اريكسون” والعشرات غيرهم أثبتوا إن أهم مراحل عمر الإنسان هي مرحلة الطفولة وإن كل المراحل اللاحقة من حياة الإنسان تستند على تلك الفترة المهمة التي تعد الأهم من حيث التراكم المعرفي والثقافي والاستقرار النفسي والاجتماعي ناهيك عن كونها أهم مراحل النمو العقلي, وعند تزويج الصغار فأن ذلك سيقتل الطفولة في مهدها وسيخلق أجيالا تعاني من عقد نفسية تلازمها طيلة حياتها وستنعكس على مجتمع كامل سيحمل معه تلك العقد جيلا بعد جيل وسيكون الحال أصعب لو انتهت تلك الزيجات بالطلاق الذي بات اليوم شبحا مخيفا يهدد مجتمعنا العراقي.
ثالثا: الضرر الصحي, من خلال نص المادة المراد زجها في هذا القانون والمشار لها آنفا, فأن الزواج سيكون في معظمه خارج المحاكم وسيكون بين الأقارب و خصوصا في المجتمعات الريفية كما هو شائع اليوم ومن دون الرجوع إلى شرط مهم وهو السلامة الصحية لكلا الزوجين وهذا سيؤدي إلى تفشي الأمراض الوراثية الخطرة التي تظهر عند زواج الأقارب والتشوهات الخلقية الناشئة عن عدم اكتمال أعضاء المرأة والتي ستنعكس على الولادات وستخلق عاهات وتشوهات سيحملها من لا ذنب له طيلة عمره سوى أن هناك من أباح زواج أمه وهي طفلة وهنا سيكون الضرر مضاعفا، اجتماعيا ونفسيا وصحيا في آن واحد.
رابعا: الضرر التربوي, إن الجهل والأمية آفتان فتاكتان تنخران المجتمع كما تنخر السوسة جذوع الأشجار وتقضي على قلوبها, فإباحة تزويج الصغار من قبل المشرع سيحرمهم من فرص التعليم الأساسية والعليا لإقحامهم في مسؤولية الزواج المتشعبة وبأعمار مبكرة كان من باب أولى أن ينصب اهتمام المشرع على التعليم والتوعية والتربية, فالمجتمعات لا تخرج من ظلامها إلا إذا كانت متعلمة وسيبقى المجتمع يسبح في ظلامه طالما أنه جاهلا وأميا, فما قول النبي محمد “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”، إلا ترسيخ لفكرة التنوير المجتمعي, ولم تكن أول كلمة نزلت من السماء على محمد “انكح”! بل كانت “اقرأ”.
خامسا: الضرر القانوني, ما إشغال السلطة التشريعية بسن قوانين ووضع تعديلات وما يرافقها من مراجعات ومناقشات وقراءات وأراء حتى تكتمل مسوداتها لتدخل في حيز التصويت والتأجيل والمصادقة والطعن كقانون منع الخمور وقانون تزويج الصغار وما كان على شاكلتها إلا إضاعة مقصودة لوقت المشرع وتشتيت اهتمامه عن سن قوانين أكثر أهمية لتعود بالنفع على الفرد و المجتمع بكل أطيافه وتحسن أوضاعه الاقتصادية والأمنية والصحية والخدمية المتردية وتحميه من ابتزاز الدولة وتعسفها وتضمن حقوقه الكاملة في العيش الكريم كباقي المجتمعات المتمدنة ليكون مجتمعا منتجا نافعا بناءً متقدما يهتم بالوعي والثقافة لا مجتمعا أميا متخلفا جائعا يعاني من قوانين لا تحمي مصالحه بل ولا تحترم حتى آدميته.
سادسا: الضرر القضائي, إن السلطة القضائية هي إحدى أهم سلطات الدولة المتمدنة إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية, وإن تهميش دور هذه السلطة المهمة ووضعها تحت رحمة رجال الدين “مقترح التعديل الجديد في الفقرتين ب و ج من البند 3 المضافة للمادة أولا”، سوف يعطل القضاء وينهي دوره في نظر القضايا التي هي من صلب اختصاصه وسوف يتسبب ذلك بضياع حق المجتمع بالكامل خصوصا وأن رجل الدين قد يخطئ في الحكم كونه إنسان وغير معصوم وسوف لن يكون هناك من يحاسبه وفقا للحديث النبوي “إذا حكم الحاكم فأجتهد ثم أصاب فله أجران, وإذا حكم وأجتهد فأخطأ فله أجر واحد” (صحيح مسلم). أو يطعن بالحكم لإعادة النظر فيه أمام المحاكم العليا كما هو الحال في محاكم الاستئناف والتمييز والتصحيح.
سابعا: الضرر الاقتصادي, المرأة نصف المجتمع وإن تم تزويجها بعمر الطفولة فسوف تحرم من أهم فرص الحياة التي يحلم بها كل إنسان على هذه الأرض وهي فرصة التعليم التي تعد المفتاح الذهبي لفتح باب العمل وبالتالي سيسوء الوضع الاقتصادي للبلد بأسره لأن نصفه عاطل عن العمل فضلا عن الأضرار الاقتصادية الأخرى المرتبطة بالنقاط الانفة الذكر.
ثامنا: الضرر السياسي, إن سيطرة الكتل الدينية الكبرى على البرلمان والذي يمثل منبع القوانين سيدفعها إلى التصويت على قوانين تعسفية تصب في مصلحتها و تكرس بقائها دورة بعد دورة مما يؤدي إلى ذوبان الكتل الصغيرة التي تمثل التيار المدني والتيارات المستقلة من المكونات الأخرى كما هو الحال اليوم وسوف يؤدي ذلك إلى التفرد في السلطة والعودة إلى النظام الشمولي, وستكون المستفيد الوحيد من كل التشريعات التي تمهد إلى الاستئثار بالسلطة والمناصب لشفط الثروات وإفراغ البلد من كل محتوياته تحت غطاء دستوري مأدلج سلفا وخطاب ديمقراطي شكلي مثلما حصل في مشروع قانون الانتخابات الأخير