صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

المكين..!!

“المكين” إسم لصفة  تدل على منزلة ورفعة شأن من (مكُنَ).. وحين  يكتسب  الشخص صفة “المكين” والدالة على الرفعة والشأن، فيما هو بعيد عنها كل البعد، تكمن عندها المأساة، وتكمن المهزلة في ذات الوقت، وهو ما نراه في مجتمعات العالم الثالث ومن بينها العراق!.

 

صدام حسين مثلا.. فهو أشقياء في منطقة الجعيفر.. وكنت أستأجرت غرفة مع التشكيلي الراحل محمد مهر دين في سطح بناية فندق الكرخ .. ويوما جاءنا “الجايجي” وإسمه كاظم، وهو من مدينتنا “البصرة” ويعمل في أوتيل الكرخ قال لنا “يوجد شخص أشقياء في منطقة الجعيفر إسمه صدام حسين وهو بعثي، وأبناء صاحب الفندق بعثيون أيضا.. أعطى أوامره لهم، بأن يلقوكم من سطح الأوتيل، فهو لا يطيق وجود شيوعيين في صوب الكرخ .. أنصحكم بالمغادرة” كان ذلك في عام 1960 وكنا أنا ومهر الدين طلبة في معهد الفنون القسم المسائي. وبصعوبة بالغة تمكنا من تسديد الحساب ومغادرة الفندق في نفس اليوم ..!

“صدام حسين” هذا “تمكن” من أن يصبح رئيسا لجمهورية العراق وصار في موقع “المكين” يلتقي جاك شيراك وهواري بومدين وبرجنيف وأمناء الأمم المتحدة، وتكتب عنه الدراسات وقصائد الشعر والنثر وتنتج عنه الأفلام الوثائقية والروائية .. ويوم طلب أن يلتقيني، فأنقذتني الصدفة بزيارة القائد الفلسطيني “جورج حبش” إلى بغداد، الذي صارحته بعدم رغبتي بهذا اللقاء “فتمكن” من إرسالي مع مرافق إلى ليبيا ومنها إلى روما للعودة إلى بيروت “مكاني المكين” في الثورة الفلسطينية .. كان ذلك في يوم الجمعة عام 1978 الساعة السابعة صباحا وكان موعد لقائي مع صدام حسين الساعة الحادية عشرة من نفس يوم الجمعة! شكرا لله  .. شكرا للمصادفة ..  ولولا هذه الصدفة لكنت ميتا، أو لأصبحت ميتا على قيد الحياة!.

أنا لست رئيسا لجمهورية الواق واق، حتى أتعامل مع صدام حسين من موقع الإحترام والأصول الدبلوماسية وبقيت أنظر له طوال حياتي وطوال حياتي الثقافية والسينمائية كأشقياء في منطقة الجعيفر يلبس الدشداشة، يأخذ “الخاوات” المالية مع البطيخ الأحمر من بائع الخضار،  كما أنظر له وهو يعطي تعليماته لأبناء صاحب فندق الكرخ كي يرميني وصديقي مهر الدين من الطابق الخامس لفندق الكرخ .. بإستمرار كنت أنظر إليه وأسخر  مما يكتب عنه، مثلما  كتب  عنه الماركسي “لطفي الخولي” مقالة مطولة بعنوان “هكذا تكلم صدام حسين” على غرار كتاب “نيتشة” المعنون “هكذا تكلم زرادشت” وينشرها في أهم صحيفة عربية وهي صحيفة النهار اللبنانية، أو أن يعمل عنه السينمائي الماركسي “توفيق صالح” فيلم “الأيام الطويلة” السيء الصيت!.

دائما بقيت أنظر لصدام حسين نظرة الأشقياء الغبي المعدوم الضمير والقيم والذوق والثقافة .. لكنه ظهر على الساحة الدولية كرئيس لجمهورية العراق ..! فعبرت عن موقفي منه في فيلم “المغني” الذي أتمنى أن يشاهده كل عراقي ..!

قصة الفيلم .. مطرب يريد الوصول للقصر الرئاسي كي يحي حفل ميلاد رئيس البلاد فتعطل سيارته ويصل متأخرا ما يثير ذلك غضب الرئيس  فيأمره أن يغني ووجهه للحائط لأنه لم يعد يطيق النظر إليه .. فتحصل أحداث مخيفة داخل الحفل والمطرب يغني ويخاف أن يلتفت للصالة”!

موقفي هذا لا ينسحب على الأرعن صدام حسين رئيس جمهورية العراق وحده .. بل هو موقف ينسحب على أغلب الرؤساء العرب وعلى أغلب شيوخ الخليج وعلى رؤوساء العراق وهو ما يعنيني أكثر .. فأنا لا أنظر لكتف رئيس البلاد والنياشين والمداليات الزائفة لحروب ينتصر فيها الرئيس على شعبه، ولا أنظر لربطة العنق الحريرية ولا لدشداشة الشيخ وعباءة الصوف المزينة أطرافها بالكلبدون من خيوط الذهب، ولا أنظر لعدد الحمايات التي تركض أمام وخلف سيارته وهم مدججون بالسلاح .. أنا أنظر لعيون الرئيس ولفمه وهو يتحدث وحجم ذلك الفم فسلجيا قياسا بتفاصيل الوجه، وأنظر إلى شكل إبتسامته ولطريقة مشيته وأبحث في تاريخه وتطوره وتحصيله الدراسي وإنحداره الإجتماعي .. وأجمع كل هذه المعطيات ثم أتخذ قرار الموقف منه ..!.

“المكين” لا يعنيني في المكان، لأن إسم رئيس الجمهورية وإسم رئيس الوزراء وإسم رئيس البرلمان وأسماء الوزراء ووكلائهم والمدراء العامين لا تعنيني وظيفتهم  بل تعنيني طبيعة أدائهم في المحافل والإجتماعات وفي قدرتهم على صياغة العبارة الأنيقة ومدى مصداقيتهم في إطلاق الوعد لأمهات المفقودين والمخطوفين والشهداء وغير الشهداء  وأربط العلاقة بين وعد الكلمات وتحقيق الوعد وبين الوعد والمعرفة والثقافة والتاريخ الفردي والإجتماعي حتى تتحقق عندي تلك العلاقة الجدلية بين المكين والمكان، ثم أحقق في  كيف ينظر الرئيس، رئيس البلاد، أو الرئيس رئيس الوزراء، أو الرئيس رئيس البرلمان إلى ماضي الوطن وحلم أهله  .. وحين أبحث في ماضيهم أتذكر ماضي صدام حسين رئيس جمهورية العراق، بدشداشته في منطقة الجعيفر وهو يبتز بائع الخضار ويحمل البطيخة الحمراء “شرط السجين” دون أن يدفع ثمنها  ليقطعها له صاحب مقهى الجعيفر في صينية الشاي ويأكلها ليسيل ماؤها الأحمر من بين أسنانه وشفتيه!.

سادتي – المواطنين – العراقيين .. حتى تعرفوا كيف تبنوا الوطن الجميل وطن ما بين النهرين .. وطن الرقم التاريخية المفخورة والمكتوبة على غرين الأنهار السومرية وغرين الأهوار .. وحتى تعرفوا مسلات القوانين، وحتى تعرفوا وطنكم  وطن الأسلاف النبلاء وأصحاب الحنان والأحلام النظيفة .. ينبغي أن يكون من بينكم من يستحق أن يحتل “مكانة” تليق بالتاريخ والحلم .. ليستحق لقب “المكين” المتطابق بين وزنه التاريخي والإجتماعي والمعرفي والثقافي ومنزلته  ورفعة شأنه كمكين، فيستحق أن يكون رئيسا لجمهورية العراق ورئيسا لوزراء العراق ورئيسا لبرلمان العراق!

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

أقرأ أيضا