سواء جاء نعشه في طائرة، أم على متن مركبة فضائية، فجسده ميت لا يعي شيئا. لم يكن مظفر النواب قد مات بالأمس، ولا قبل الأمس، فهو خارج الوعي والذاكرة منذ الأمس، وقبل الأمس بسنوات. التلفزة المزيفة والصحافة المظللة، وجدت موضوعا يشغل أثيرها وورقها الأصفر، ووجدت عناوين “تزين” بها رحيله الأبدي المحزن! وجدت مادة ليوم واحد وربما بضعة أيام أخرى آتية حتى يتم النسيان ويفرض النسيان وجوده، ويطل الغبار الأحمر على البلاد ويلون الساحات وجداول الأنهار اليابسة، ويعود السفلة والمنحطون ليشغلوا الشاشات بعد أن عطلها الشهيد برامجها لساعة أو بضع ساعة.
هل تريدون مظفر النواب حيا ؟ لا تنهبوا البلاد!
هل تريدون مظفر النواب حياً، لا ترسموا خارطة الوطن بالألوان المتشظية!
هل تريدون مظفر النواب حياً؟ لا تكتموا الأنفاس!
هل تريدون مظفر النواب حياً؟ لا تقتلوا الهاشمي والهاشميين؟
هل تريدون مظفر النواب حيا؟ أطلقوا سراح المخطوفين والمغيبين؟
هل تريدون مظفر النواب حيا؟ أشتلوا فسائل النخيل كي نعيد العراق رطباً جنيا!
هل تريدون مظفر النواب حيا؟ احترموا مساحة الوطن وحدود الوطن!
هل تريدون مظفر النواب حيا؟ لا تبيعوا ترابه!
لقد أتاكم مظفر النواب وهو مدفون بتراب الشارقة أو برملها.. أفلا تستحون؟
قال شعراً عن المسيح مشروطا بلا صليب وعن محمد مشروطا بدار غير آمنة، وعن علي بلا شروط! فهل أدركتم لماذا علي بن أبي طالب ليس عليه شروط؟ لأنه القائل “لو كان الفقر رجلا لقتلته” ويعرف مظفر النواب عندما أصبح الفقر رجلا لم يكن علي بن أبي طالب بيننا.. لقد أصبح الفقر دكتاتوراً بالنياشين المزيفة، ولم يكن علي بن أبي طالب بيننا، وأصبح الفقر معمماً بفكر ملعون ونعل مدهون، ولم يكن علي بن أبي طالب بيننا، ولبس الفقر شروالا يتجول في شوارع القدس المحتلة، ولم يكن علي بن أبي طالب بيننا. وأصبح الفقر نفطا تدلقه المصبات في جداول الجيران وغير الجيران، ولم بكن علي بن أبي طالب بيننا، فبات طفل العراق بلا مدرسة، وبنت العراق بلا قلادة، وشيخ العراق بلا عكازة!
فسواء جاء نعشه في طائرة أو على متن مركبة فضائية، سيان. فلقد عاش وحيدا متوحدا صارخا ينادي القدس، عطشانا لمياه دجلة وجائعا لتمر العراق، فحرمتموه من صغير الرغبات وقليل الأمنيات حتى فقد الذاكرة وأخاله يتذكر قصيدة شعر واحدة لوطن كان يوما اسمه العراق، فبات العراق راية مزيفة وبرلمان مزيف ورئاسات مزيفة تكذب عبر الأبواق والكاميرات ولا تستحي، ومن ثم تستقبل الحكومة المزيفة الشاعر مظفر النواب ميتا ملفوفا بعلم غير راية بلاده ومدفونا بتراب غير ترابه.. فلقد مات مظفر النواب منذ سنوات طوال، ولم يعد يذكر شيئاً ولا يعرف المستقبلين فهو لم يعرفهم، ولن يعرفهم، فحملت نعشه أياد “مجازية” أخالها أيادي ملائكة عراقية، ومشت به حلماً نحو مثواه الأخير الخالد.