كنت باحتكاك يومي مع الكثير من الموقوفين والمحكومين في بغداد لمدة أربعة أشهر، شاهدت فيها الكثير من الشخصيات بمختلف المستويات وسمعت الكثير من الحكايا، وبسبب عملي ونشاطي في مجالات الصحافة والمجتمع المدني العراقي والنشاط السياسي، يذهب تركيزي عادة الى آلية تطبيق القوانين وماهي ثغرات قانون العقوبات العراقي، وماهي اصلاحات القوانين والمؤسسات ذات الصلة.
لفت انتباهي ما يحصل مع تجار من العيار الثقيل (في الغالب) من مشاكل صغيرة جدا تؤدي الى تحطيمهم والسبب هو ضعف المواد القانونية المعنية بحماية المستثمرين والتجار في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 والتعليمات اللاحقة وضعف النظام البنكي، وسأتحدث عن هذه المشاكل لاحقا.
واستمرت الايام بالمضي حيث بداية الحكاية الاكثر لفتا للانتباه، فيما يخص عنوان هذه المقالة.
كان غريبا بشكله ولغته، لذا سألته عن سبب مجيئه، قال مبتسما: أنا الدكتور محمد رضا خادمي، لاجئ سويدي وأعمل في مكتب الامم المتحدة هناك، وقد تم اعتقالي في كردستان العراق، وسجنت لمدة سنة كاملة من دون مسوغ قانوني وبدون محاكمة، ولم أخرج من السجن حتى أعلنت احتجاجي عبر الاضراب عن الطعام والشراب لمدة ستين يوما وخرجت منها بسيارة اسعاف بعد تدهور حالتي الصحية، عمري يربو على ثمانية وخمسين عاما، واستخدمتني كردستان للاستعراض أمام اوروبا وتشويه وجه بغداد، فاستوقفته هنا: لكي أستوفي منه ما حصل بالتفصيل، وماهي الرؤية السياسية التي يتحدث عنها بخصوص وجه بغداد أمام العالم.
فجلسنا نتداول لأيام طويلة في أحداث الفترة الاخيرة بالنسبة للعراق والعالم على الصعيد السياسي، وبحكم عمله مع الامم المتحدة واطلاعه على المواقف الدولية والنقلات الاقتصادية في المنطقة، التي تحدث تغييرا سياسيا عالميا وبشكل كبير.
وصلنا الى ماهية توقع الموجة الثالثة التي بدأت بدخول العراق وذلك بعد الموجة الطائفية وموجة تنظيم الدولة الارهابية، وماهي الملامح والأسس التي يتم بناء الموجة الثالثة على اساسها.
شرع ذلك السجين بطرح قضيته كمثال بسيط عما يحدث، هذا الرجل يعتبر محميا وفق القوانين الدولية مالم يقترف جرما أثناء حمله وثائق لجوئه السياسي لدى السويد والمصادق عليها من قبل الامم المتحدة، فما يثير الاستغراب ان ما حدث معه في كردستان ليس تطبيقا للقانون وإنما استمرار بتهويل ذريعة أن بغداد لا تحفظ الأمانة وأنها لن تحترم القوانين الدولية، برغم أن اعتقالهم البدائي ليس قانونيا من الاساس فلا داعي لذكر بغداد اصلا، وخصوصا أن العراق مصادق على المواثيق الخاصة بحماية اللاجئ السياسي، وهي ذات درجة اعلى من قضايا الانتربول، فلو افترضنا أنه لم يكن لاجئا أو أن كردستان محقة بمسألة اعتقاله، فإن السياق القانوني في هذه الحالة أن يتم التأكد من أوراقه الثبوتية وإرساله الى بغداد خلال شهر واحد بحسب القانون، ويبقى القرار مناطا ببغداد باعتبارها الممثل الرسمي للعراق ومركز القرار في مثل هذه الحالات، وهذا ما لم تفعله حكومة كردستان مع شديد الاسف، وهذا تلميح عن الحكاية…
الكثير من الخروقات تحت اي ذريعة كانت؟!
كانت بذريعة أن بغداد صديقة لإيران وستغتال هذا الرجل نيابة عن إيران ولن تحترم فيه القوانين والاعراف الدولية، وهذا كلام وزارة الداخلية في كردستان الموجهة الى سفارة السويد والامم المتحدة بخصوص هذه القضية.
كان هذا برغم ان دائرة الهجرة والسفارة السويدية أكدت انها لن تمنع اللاجئ من السفر الى أي دولة عدا ايران وافغانستان، وأن العراق أحد الموقعين على قوانين اللجوء الدولية ولا يشكل خطرا على اللاجئين، وبالرغم من هذا استمرت كردستان بالمماطلة لسنة كاملة في محاولة منها لتشويه سمعة بغداد أمام الاوروبيين والمجتمع الدولي، وكانت هذه اللعبة ستمر لولا اضراب هذا السجين عن الطعام واجبار الحكومة في كردستان على نقله الى بغداد بسيارة اسعاف نتيجة تدهور حالته الصحية هناك، تنصلا من مسؤولياتها تجاهه، ولتوريط بغداد فيما لو حصل له مكروه لا سمح الله.
لم يبدا التلاعب في وجهة نظر المجتمع الدولي حول بغداد مع قضية محمد رضا خادمي، فقد سبقه بأيام حادث مهم تعرفونه عن سلوان مونيكا. هل تعرفون حقيقة القصة؟
بحسب الأدلة التي قدمها لي الدكتور خادمي، يبدو ان الشغل الشاغل لحكومة كردستان وكتاب قصتها هو اظهار بغداد بوجه مشوه امام المجتمع الدولي وأنها لا تحترم القوانين وأن المساحة الوحيدة التي تلتزم بالمعايير الدولية في العراق هي اربيل.
نعم ان المصلحة واضحة لكردستان في هذه الافعال فهي ما تزال تسير ضمن المنطقة المحرمة للأحلام حول اقامة دولة مستقلة منشقة عن العراق، ولكنها بهذه الافعال تسعى لتدخل دولي يمنحها الاستقلال أو يعطيها اليد العليا في قيادة مقدرات العراق في المرحلة القادمة.
أفهم جيدا شعور القارئ بنظرية المؤامرة داخل المقال ولكن دعوني أكمل، فما حدث من اعتقال للدكتور محمد رضا هل هو لاعتبار ان كردستان تحترم قوانين الانتربول حتى وان كان صاحب الطلب إيران؟ فما بال 25,000 من المسلحين وغيرهم من المعارضين الذين يمرحون ويعيشون بسلام في اربيل برغم وجودهم على راس قائمة الانتربول كمطلوبين لإيران، بل توفر اربيل الحماية لهم، علما انهم لا يملكون الحصانة الدولية مثل الدكتور خادمي المتمثلة بوثيقة اللجوء السياسي المحمية دوليا.
التفسير الواضح بحسب رواية المعتقل السويدي ان سنة الاعتقال هذه كانت لسببين:
الاول هو استعراض سياسي امام المجتمع الدولي حول مستوى رفاهية سجون كردستان ومدى التزامها بالمعايير الدولية بغض النظر عن هويه المسجون، والسبب الثاني هو العناد في طرح سردية أن بغداد هي مكان خطر بالنسبة للمعتقلين السياسيين وخصوصا الايرانيين منهم واصرار اربيل على عدم تسليم المعتقل الى بغداد او اخلاء سبيله لولا ان قانون الانتربول يجبرهم على تسليم المعتقل الى بغداد، وقد استغرقت السردية سنة كاملة بتداولها في المجتمع الدولي بعيدا عن بغداد وبدون علمها قطعا.
حتى توقفت في نهاية المطاف عبر الاحتجاج السلمي للمعتقل وسلمته لبغداد في سيارة اسعاف، فقد أضرب عن الطعام لمدة ستين يوما وأجبرهم بذلك على تركه خوفا من تحملهم المسؤولية في حال مفارقته للحياة.
فمن الذي يوفر هذه المساحة لأربيل للتعامل مع المجتمع الدولي في معزل عن بغداد؟
بعض الاجابات في مقالنا القادم.