كُتبت في الآونة الأخيرة أبحاث ودراسات حول الحركات الاحتجاجية التي هزت العديد من المجتمعات في العالم، إن كانت في هونغ كونغ أو تشيلي أو الجزائر أو الاكوادور مرورا بلبنان ثم العراق. تم تشخيص العديد من الظواهر المشتركة بينها، مثلما نجد العديد من نقاط الاختلاف. الآراء في المنطقة العربية تتراوح بين من يراها امتداد « للربيع العربي، او انها حركة تصحيحية »، وبين من يحللها جيو – ستراتيجيا كونها ازمة نفوذ ايراني داخل فضائه الشيعي الاقليمي (العراق ولبنان).
دون شك، يتقاسم العراق العديد من النقاط المشتركة مع هذه المجتمعات المنتفضة، كما يتميز عنها ايضا بخصوصيته وأشكال تعبيره، بل حتى بخطابه داخل رقعته الجغراقية الواحدة. اولى هذه الخصوصيات التي تميز حراكها المجتمعي تكمن في ملامحها الوطنية الجامعة، من شعارات واهداف (حكومة انتقالية مكونة من مستقلين ومستقلات نزيهين، قانون انتخابي منصف، هيئة مستقلة للانتخابات من خارج نظام المحاصصة، انتخابات مبكرة، تفعيل قانون الاحزاب، الخ)، إلا أن ديناميكيتها ما زالت محصورة مكانيا في الوسط والجنوب العراقي (بل حتى في احياء معينة من العاصمة بغداد). هذا التباين يفسره الموروث السياسي الحديث وحدة الصراعات الاجتماعية وتراتبيتها، فضلا عن الحضور الاقليمي والدولي الذي بات مذلا.
انطلاقا من هذه المعاينة الاولية، حاولنا هذه المرة تحليل جزء من الحراك الجماهيري العراقي من البوابة النجفية، عبر مراقبة واصغاء للفاعلين الميدانيين الشباب. لماذا التوقف عند النجف، تلك الحاضرة الدينية ذات الملامح الخاصة؟
1- رغم أن النجف تُعرف حتى اليوم المدينة “المصدرة للعمائم ومستقبلة للجثث”، الا انها اكتسبت في العقود الماضية خبرة كبيرة في ادراة الاحتجاج والتنظيم المدني، والجدل السياسي والغنى الأممي بفعل طابعها الكوزموبوليتي. وللنجف ايضا تراث للحوار والجدل والانفتاح الفكري رغم الصورة المحافظة المهيمنة عليها. فيها كُتب “تنبيه الامة وتنزيه الملة” للشيح ميرزا النائيني (ببعده المؤسساتي الحداثوي)، مثلما كتب في ذات النجف، بعد عقود، “الجمهورية الاسلامية” لروح الله الخميني الذي دعا فيه لنموذج سياسي صارم بانغلاقه على التعديدية السياسية والمجتمعية.
2- رغم الجو الثقافي المحافظ للمدينة، إلا أن نسيجها الاجتماعي متأثر بالحركة المدنية الشبابة، فشبكات التواصل الاجتماعي حاضرة ومؤثرة على التحشيد وبلورة الأفكار، وبالتالي فاعلة في توجيه الساحة مطلبيا (شيء مما يذهب اليه المفكر ايمانوئيل كاستل في كتاباته عن الشبكات الاجتماعية ودورها في اعادة صياغة المجتمع).
3- النسيج الاجتماعي المديني النجفي غير عشائري، لكنه ذو عصبية مناطقية واضحة، لذا بقي جوهر الخطاب الاحتجاجي النجفي نقديا، ولكن بسقف سياسي واقعي وعقلاني تتحكم فيه مصالح وتوازنات تلك البيوتات الكبيرة (البيوتات انثروبولوجيا هي العوائل الممتدة، بذاكرة بعيدة، لها من يمثلها، ويكون لبعضها دور اقتصادي او اجتماعي او حتى سياسي). في المقابل، نرى هيمنة البيوتات الدينية الكبيرة وتلك الجامعة بين التعبير الطقوسي والسوق لترتهن معها عملية انتاج الثروة لتلازم الثنائي: الديني والسياسي على حد تعبير الانثروبولوجي الفرنسي موريس غودولييه. نحن هنا امام نمط مجتمعي لا يراكم رأس المال عبر دورة إنتاج طبيعية تنتج فائض القيمة، بل يتحقق تراكم الثروة لديهم عبر توظيف المقدس مركنتليليا ضمن آلية ضبط سياسي وأمني مقنن.
4- فهم شباب النجف مبكرا (ربما على خلاف آبائهم)، أنه من العبث التصارع مع خصومهم المحافظين على ما هو في السماء، بقدر التركيز على فشل إدارتهم لما هو على الارض، وبالتالي فانهم لم ينجروا حتى الآن الى الاستفزاز، ولم يقعوا في الفخ الذي نصبه لهم خصومهم. فما حصل من حوادث مؤسفة، وعمليات قتل حوالي مرقد السيد محمد باقر الحكيم لم يغير الكثير من المشهد. ربما اهم ما ادركه شباب ما بعد ٢٠٠٣ بتجربتهم الفردية والجمعية أن التوظيف السياسي للاحزاب في الطائفة كان هدفه الاول والاساسي سلبهم حقوق المواطنة والمدنية قبل الانتصار للمذهب. من هنا، أولى حروب الحركة الاحتجاجية الشبابية مع الفئات المتنفذة، كانت وما زالت حول انتزاع واسترجاع الرموز والهوية الوطنية. بطبيعة الحال، وكبقية العينات البشرية، المجتمع الديني النجفي هو الآخر مقسم، وبالتالي نظرة العامة له ايضا متباينة : بين المتفهم لدور بعض بيوتاته الروحية والعلمية عن تلك التي وظفت اولا السلطة الروحية لاهداف سياسية واقتصادية. لذلك لا تجد شبيبة اليوم تناقضا بين التعبير الديني والمذهبي الفردي ومنهج العديد من الشخصيات الدينية الاساسية في النجف، شرط عرقنة الخطاب اولا واشفاعه بمحتوى مدني ووطني.
5- إحدى أهم النقاط التي تميز النجف عن بقية المحافظات المنتفضة، كونها حافظت على سلمية حركتها الاحتجاجية رغم شدة القمع السلطوي، ووقفت بوجه من حاول ركوب موجة التظاهر، واستخدامها في معارك مشكوك بصدقيتها. هذه النقطة كانت احيانا مصدر جدل وحتى التشكيك، من ان المدينة وحوزتها غير متجاوبتين مع المطالب الشبابية التحررية العادلة. في الحقيقة، وقفت النجف مع كافة الحركات المجتمعية والمطلبية شرط تجاوبها مع المؤسساتية واحترام القانون ونبذ العنف، إدراكا منها أن الحروب الاهلية لا تؤدي إلا الى توسيع المقابر الموجودة، سيما مقبرة وادي السلام.
6- ربما للنجف خصوصية أخرى تميزها عن المدن المنتفضة العراقية : ليس فقط تقاسمها النضال من اجل العدالة الاجتماعية، والبحث عن وطن جامع بسردية جديدة، ومواجهة الفساد والزبانية، الخ، بل نلمس أكثر فأكثر لدى شبابها الرغبة بالانفلات من الكبت والاجواء المحافظة الضاغطة. كنا نرى ونراقب فيما مضى تصادم رغبات الشباب ليس فقط سياسيا، بل أيضا بشان ابسط مظاهر حياتهم اليومية : بين حق البعض بالمطالبة بحياة عصرية منفتحة مسبيا على العالم، تتذوق الموسيقى، وتشعر بجمالية الالوان، والاحتفال، كالبقية، باعياد ومناسبات محلية وبشرية عامة، الخ. مقابل هذه الرغبة والحق الطبيعي للانسان، كنا نجد شريحة شبابية نجفية أخرى، متذمرة من المنظومة السياسية المشوهة ولكن برداء ثقافي محلي يتحاشى المواجهة المفتوحة خشية التجاوز على المكان المقدس. الجديد هذه المرة، ان الشباب النجفي بشقيه شعروا ان التوازن بين احترام السماء وقدسية المكان وحياة مجتمع معاصر، بحسب الوصفة النجفية المتوارثة، قد تم خرقه ليس فقط من قبل “الغرباء” الوافدين على المدينة فحسب، بل أيضا من قبل تيارات وحركات سياسية غالت باستخدام المقدس لمصالحها الانانية، واختزلت حضوره في حقل مذهبي- سياسي حصرا، وصادرت بذلك التعددية الثقافية والاجتماعية للحاضرة.
7- لا يمكن تصور النجف اليوم من دون ذلك الثالثوت الحاسم : فيه مرقد الامام علي ابن ابي طالب الذي يضفي على المكان قدسيته الدائمة وينتج هوية ذات بعدين، محلي نجفي عراقي من جهة، وهوية عابرة للمكان من جهة اخرى (المدرسة النجفية تصهر كل قاصد لها، لتعيد تكوينه حتى يصبح جزءا منها مهما كانت هويته الأولى). هناك ايضا الحوزة النجفية التي تستوعب الآلاف من طلاب العلوم الدينية ضمن شبكة مؤثرة جدا في العديد من المجتمعات المحلية. واخيرا هناك السيستاني تحديدا الذي لا نرى له من رديف من حيث الاهمية والتأثير ليس فقط في واقع المجتمع العراقي بل والعالم الشيعي. لقد ذهب السيستاني في تفهمه ودعمه للتظاهرات السلمية العراقية حدودا لم يجرؤ أي مرجع نجفي آخر الذهاب اليه. وهو بذلك أقرب الى منهجية ابن خلدون وتفكيكه لماهية السلطة من جهة، وقربه ايضا للمشروطة المحدّثة للمجتمع ومؤسساته في سياق عمران يبنى بشكل واعي وبقوانين عصرية، بل حتى حتى وضعية يتصدر فيه قرار الشعب موقعه السيادي. تبني هذا المنهج الحداثي لا يتم دون ثمن، إذ تعرض، ويتعرض السيستاني لضغوطات، ليست قثط من قبل احزاب ومليشيات وجماعات ما دون الدولة فحسب، بل كذلك من لدن العديد من الدوائر السياسية والامنية المؤثرة في طهران، بل وحتى من بعض رجال الدين داخل الحوزة النجفية ذاتها. وليس غريبا ان نواجه، كباحثين، مشاكل مع من يدعي السيستانية أكثر من خلاف او تفسير متباين مع السيستاني ذاته.
8- المثير أكثر في المجتمع النجفي اليوم هو الموقف المؤيد للطبقة الوسطى وأبنائها المشتركين في الحركات الاحتجاجات، وهذا ما نراه في قيادة طلبة كلية الطب والهندسة والصيدلة للتظاهرات النجفية أكثر من طلبة العلوم الانسانية. هذا لا يلغي السببية الطبقية لهذه الحركة المجتمعية ذات البعد الديمقراطي (الدفاع عن العدالة الاجتماعية، والقانون، والمؤسساتية كونها اساس العمران، الخ). إن ما يحصل في العراق اليوم هي حركة مجتمعية تغييرية ذات طبيعة ديمقراطية، حتى اليوم غير انتقامية، تحاول أن تضع حقوق الإنسان والجماعات في صلب توجهات الدولة القادمة. إنها حركة تعمل من أجل عقد اجتماعي جديد وبناء امة جديدة حسب قيم ورموز ومخيال جديد متقاسم.
لذا، فان حركة تشرين الاحتجاجية في العراق هي ربما الأهم من بين كافة الحركات الاجتماعية التي شهدتها البلاد منذ قرابة القرن، وفيها مما يستحق البحث والتفكيك، وهي بالتالي أكبر مختبر للدراسة والتعلم بسماء مفتوح.
الدكتور هشام داود: باحث في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية
المقال خاص بـ”العالم الجديد”