حدثني الناقد السينمائي المصري الراحل “سامي السلاموني” أثناء تواجدنا في مهرجان لايبزغ في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة عن كتاباته عن الأفلام المصرية .. قال، عندما أشاهد فيلما مصريا يثير إعجابي فأنني لا أتأخر يوما واحدا عن كتابة النقد وتقييم الفيلم ونشره، وحث المشاهد على مشاهدته حتى تنتعش السينما المصرية وأساعد في أن يسارع المخرج لعمل ثان .. وعندما أشاهد فيلما لم يكن قد أنجز الصيغة القياسية لمفردات لغة التعبير السينمائي ولم يثر الفيلم أعجابي فإنني أكتب رأيي بالفيلم موضوعيا، وأخبئ النقد ولا أنشره، خشية أن أعرض المخرج والمنتج إلى خسارات في شباك التذاكر أو أنغص على المخرج لياليه وأحلامه بعد أن بذل جهداً في إخراج الفيلم، ولكن لأسباب كثيرة لم يحقق ما كان يصبو إليه وما كنا ننتظره منه!
أتحدث هنا عن كم من النقاد والحساد الذين تعرضوا لي وآخرهم مجموعة من المهتمين بشؤون السينما والنقد إجتمعوا في أكاديمية الفنون وقال أحدهم لنذهب لمهاجمة فيلم قاسم حول “بغداد خارج بغداد” وهم لم يشاهدوه بعد .. والفيلم حين قال عنه كبار نقاد السينما لاحقا كلاما جميلا، سكتوا جميعا محتفظين بنزعتهم التدميرية لفيلم عراقي آخر! .. هل يشعرون يا ترى بخزين النزعة التدميرية في ذواتهم وما تلحقه من الآذى للأخر وللوطن؟! .. ليس الحديث عن هؤلاء، لكن الحديث هنا عن النزعات التدميرية والعدوانية الكامنة في الذات السيكولوجية العراقية إفرادا وعشائر وسلطات ومواطنين عاديين في غرف الموظفين وفي المنتديات الثقافية وفي النقابات المهنية .. بل وحتى في مناسبات التعازي، فكثيراً ما يتحول المكان إلى نزعات تدميرية كامنة حتى بحرمة المناسبة .. ليس في داخل العراق فحسب وفي جغرافية المكان الملوث، بل وحتى في المنافي النظيفة، حيث جمعتهم المأساة التي تقتضي إعادة النظر في ظاهرة النزعة التدميرية وهم يعيشون وحدة الغربة والإغتراب!
إن تشويه نصب العراق التاريخية ليست ظاهرة عابرة بل هي نزعة تدميرية ظهرت للعيان وكانت كامنة بسبب سيكلولوجية الدكتاتور التدميرية .. التي أوقفت التدمير المضاد من خلال ظاهرة الخوف التي تحولت إلى ظاهرة مادية ترعب المواطنين، وظاهرة نشر الخوف والرعب هي في ذاتها نزعة تدميرية مخيفة. وحين سقط الدكتاتور ظهرت هذه النزعة التدميرية للعيان، بشكل مرعب في عملية تدمير ليس النصب التاريخية ولا اللحمة الإجتماعية وليس إقتصاد الوطن الذي يمثل عربة المسارات التي توصل الناس للمكان الفسيح الآمن. فخربوا هذه العربة وإستشرت ظاهرة الفساد التي تمثل ذروة النزعة التدميرية. والذين عايشوا المرحلة الملكية لمسوا حجم العنف في التعامل مع العائلة المالكة حين إنتهت سلطتهم، بل سرت النزعة التدميرية إلى تهديم البنى الثقافية والبيوت البغدادية التي سكنتها عائلات محبة للملوك وتراثهم .. وهذه النزعة التدميرية ترتد بالضرورة على الذات، فتندلع الحروب ليست في المجتمع الواحد بل تندلع في الفرد الواحد! وفي العائلة الواحدة!
هل تتذكرون قصيدة الجواهري يوم قال في تتويج الملك فيصل الثاني “ته يا ربيع بغصنك الزاهي الندي” سرعان ما هطلت عليه شظايا النزعة التدميرية .. “صه يا رقيع فمن شفيعك في غد .. فلقد صدئت وبان معدنك الردي” و “دع ما تقول وعش بوجه أسود .. وألبس ثيات غباوة وتعبد” .. تركهم وهاجر إلى براغ .. وكتب عنهم “عدا علي كما يستكلب الذيب .. خلق ببغداد أنماط أعاجيب”!
هذه النزعة التدميرية في سيكولوجية الفرد العراقي والمجتمع العراقي هي التي أوصلت سفينتنا مهشمة البنى ممزقة الأشرعة واصطدمت بصخور الجزر الناتنة ومات السفان والمسافرون .. وبات الوطن في بيوته وجدرانه وصالات السينما والمسرح فيه وصالونات الفنون التشكيلية والنحتية ومنصات الموسيقى .. كلها أصبحت شواهد للخراب!
ذات ليلة من ليالي بيروت جاءني في ساعة متأخرة الشاعر سعدي يوسف، وهو مدمى الجبين .. ينزف منه الدم مع أورام في عينية .. وقال لي لقد ضربني الشاعر “فلان” ويصعب على الذهاب لمنزلي .. سأقضي الليلة عندك .. مسح بقايا الدم عن جبينه وخديه.. ونام ..
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا