تعرف علي عام 1989 في فندق البحر المتوسط في ليبيا الجماهيرية وأنا أخرج مسلسلا وثائقيا عنوانه “تراثنا الجميل”، تعرف علي عندما نادى موظف الاستعلامات باسمي لمكالمة هاتفية. كنت أراه لأكثر من يوم وهو دائم النظر صوبي.. وبعد المكالمة الهاتفية وتأكده من شخصي، جاءني وسألني إن كنت أنا صاحب فيلم “الأهوار”.. لكنه كان يتحدث بصوت بالكاد كنت أسمعه.. يتحدث همسا.. قدم لي نفسه “محام من كركوك” وعجبت كيف يتولى الدفاع عن موكليه وصوته لا يسمعه قاضي المحكمة.. طلب مني أن يحدثني في غرفته.. اعتقدت أنه يخاف الحديث في صالة الفندق.. استجبت لطلبه وصعدنا إلى غرفته، فكشف لي عن ساقيه وكان يلفهما بورق التواليت، لأن ثمة جروح تنز قيحا، وأخبرني أن الذي كان يقوم بتعذيبه في العراق طبيب بعثي، يجرح ساقيه بالمشرط وهي لا تزال تنزف.. وأخبرني أنه يضع المناشف فوق السرير حتى لا يتلوث الفراش ويحرج مع خدم التنظيف، ويلف ساقيه بورق التواليت وطلب مني أن أساعده.. حكايته طويلة ومؤثره استدعت إيقاف عملي في الفيلم.. كما أخذت حكايته حيزا في مذكراتي!.
– تركت عائلتي في قرية جبلية وغادرت العراق عبر الحدود على بغل بين سلسلة جبال معقدة، قال لي وأضاف، وأنا حزين جدا لفراق عائلتي واكثر حزنا على إبنتي الصغرى..
مد يده إلى جيبه وأخرج محفظته وقد وضع فيها خلف البلاستيك الشفاف صورة ابنته الجميلة، وقال لي اسمها “رباب”.. اتصلت بصديقي “مبروك عبد السلام” وهو شخصية ثقافية مرموقة في ليبيا وطلبته أن يأتيني إلى أوتيل البحر المتوسط.. جاءني وطلبت منه أن يرسل هذا الرجل إلى المستشفى لمعالجته وهو ما حدث.. وبعد أكثر من شهر غادر المستشفى وتم تعيينه مستشارا قانونيا في وزارة الخارجية الليبية. وقبل أن يودعني ترك معي وصية أن أبلغها لمن يسقط نظام الدكتاتور.. الوصية قال لي:
“لأن أعصاب العراقيين مرهقة تماما فإن وصيتي حين يسقط الثوار نظام الدكتاتور وبعد إذاعة البيان الأول للثورة، أن يكون البيان الثاني الطلب من المواطنين التحدث بهمس وعدم التحدث بصوت عال لأن أعصاب العراقيين مرهقة تماما، ولكي نبني عراقا هادئا خاليا من الصياح.
نعم.. أبلغت من أسقط نظام الدكتاتور بوصيتك وبعد إذاعة البيان الأول لسقوط الدكتاتور، أذيع البيان الثاني وهو الطلب من المواطنين أن يركنوا إلى الهدوء وأن يتحدثوا بهمس.. حتى أن الثوار قد بثوا بعد البيان الثاني أغنية “أول همسة” لفريد الأطرش..!
سيارات الثوار وهم في مواكبهم بين الجادرية والجادرية وبين المنطقة الخضراء والمنطقة الخضراء، لا تسمع صوتا لسياراتهم ولا تسمع إطلاق صفارات التنبيه، بل صار المرافقون يحملون لوحات ألكترونية تشع بالكتابة وترى في مرايا السيارات حتى يتنحى صاحب الكيا أو صاحب التيوتا أو صاحب البيجو جانبا ويمر الموكب دونما ضجيج، فيما يختفي الثوار وراء الزجاج الأخضر المظلل حتى لا يعرفهم الأعداء!
مباشرة بعد إذاعة بيان الهمس، توقف سائقو التاكسي وأصحاب السيارات عن أطلاق منبهات السيارات، وإمتنع ركاب الحافلات التحدث مع بعضهم عن رخص المواد الغذائية وعن سعادتهم في المنح الأضافية لرواتبهم، وتخفيض نسبة الضرائب!
خصومنا لا نتعامل معهم سوى بمسدسات آلية “كاتمة الصوت” وأكيد شاهدت إغتيال الشهيد هشام الهاشمي، وكيف ترجل الشباب من سياراتهم وصوبوا فوهات المسدسات “الكاتمة” نحو سيارة المغدور وقد بثته الفضائيات وانت لا تسمع سوى صوت المذيع الأنيق أو المذيعه الجميلة، ولا تسمع صوت القتلة ولا آهات القتيل..!
الصواريخ التي نتعارك بها حين نختلف ونادرا ما نختلف فإننا نغطيها بالوسادات حتى حين تسقط على مواقع الخصوم تسقط كاتمة أصواتها.. وتسقط بردا وسلاما..!
حين تختلف العشائر وتعلن الدكات العشائرية، يخرج العشائريون وهم لا يدكون الأرض بأقدامهم حتى لا يتطاير غبار المعركة.. فلقد فرشنا لهم الأرض بـ “الدواشك” لكي يدبك شجعان العشيرة ولا يثيرون الرعب والتراب..!
أبدلنا الموتورسيكلات بدراجات هوائية. في جانب منها حتى لا تخرج أصواتا، وفي جانب منها التمتع بالروح الرياضية وتتذكرون حين خرجت مجموعة من الفتيات وهن على الدراجات في شارع أبي نؤاس كم من المواطنين صفقوا لمبادرتهن وكم من الفضائيات عرضت المشهد الجلل! فأصبحت الدراجة ظاهرة حضارية للشباب وللصبايا على حد سواء في طول العراق “وعرضه“!
الأطفال حين يذهبون لمدارسهم المرموقة بكل وسائل الراحة والتدريس الأنيق يذهبون في عربات تجرها الأحصنة الأصائل، حتى إختلط عليهم الأمر بين الواقع الجميل والخيال في أفلام والت دزني!
وحين تذهب إلى مؤسسات الدولة وأكثرها زحمة مديرية التقاعد سوف ترى المتقاعدين وهم في أعمار السبعينات يتعكزون على العكازة ويأخذون مكانهم بهدوء على مصطبات مفروشة بمخدات الحرير في صالة الإنتظار، ينتظرون أرقامهم على شاشة إلكترونية دون أن يناديهم المنادي بأسمائهم.. أغلبهم يستعمل سماعة الأذن حتى يمكنه من إلتقاط حديث صاحبه همسا.. فهم ليسوا بالطرشان وفي صحة جيدة للغاية، ولكنهم وضعوا السماعات على آذانهم كي يتحدثون همسا.. ويسمعون همساً..!
ولأن البطالة قد ولت إلى غير رجعة.. وكل العراقيين يعملون في مؤسسات الدولة وفي الشركات التي تعمل جاهدة لبناء الوطن.. يعملون ليل نهار ويرتاحون فقط في يوم الجمعة.. وحتى ينعمون بالراحة وبالحديث همسا في يوم إستراحتهم في نهاية الأسبوع، فلقد قررت المرجعيات الدينية “بشقيها” التوقف عن خطبة الجمعة لكي ينعم المواطنون بجمعة هادئة ليس فيها صراخ، وتم ترحيل خطبة الجمعة إلى يوم السبت!
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا